انتهت الجولة الأخيرة من مسار أستانة بإصدار بيان ختامي يكاد لا يتمايز عما سبقه، إلّا أنه كان مستفزاً للحاضنة الشعبية للثورة، وذلك على خلاف أعضاء وفد الإئتلاف الذين كان لهم رأي آخر، حيث صرح بعضهم باعتبار نتائج جولات هذا المسار إنجازاً، علماً بأن حضور وفدي ما يسمى المعارضة والنظام معاً لا يعدو كونه حضوراً بروتوكولياً فقط، لإظهاره للرأي العام على أنه يأخذ بعين الاعتبار مصالح طرفي الصراع، مع أنه من الناحية العملية فإن كلا الوفدين لا يساهمان باتخاذ القرار.
فمسار أستانة أصبح يعكس رغبة الدول الثلاث (روسية، تركيا، إيران) باستمرار هذه الصيغة من التعاون فيما بينهم لإدارة الخلافات والصراعات على الأرض السورية وضبطها، حيث تعمد موسكو من خلال المنصة على تدعيم سيطرة عصابات الأسد على المناطق التي تقع تحت نفوذ فصائل “الجيش الوطني” و”هيئة تحرير الشام”. إعطاء انطباع زائف بأن عودة اللاجئين السوريين الذين هجّرتهم الآلة العسكرية التابعة لهذه العصابات وروسيا، هي على جدول أعمالهم. بغية الحصول على شرعية سياسية عصابات الأسد، ما يمهد للحصول على معظم المساعدات الدولية المقدمة للاجئين، وبالتالي احتكار تلقّي وتوزيع المساعدات الدولية. مما يعني، إبقاء مشكلة المخيمات بلا حل، وربما تفاقمت أكثر، وهذا يتطلّب التعامل مع وضعها من منظور إنساني، بتزويدها بمرافق تساعدها على مواجهة الأحوال الجوية الصعبة على الأقل، وتوفير المستلزمات الأساسية للحياة من تموين ومياه صالحة للشراب وطبابة ومدارس، ريثما يصبح الحل السياسي ممكنًا بأي شكل، وبما ينهي مأساة التهجير.
وإن كان ما ميز الجولة الأخيرة هو الإهتمام الملفت لوفد الإئتلاف بملف المعتقلين، الذي له حساسية كبيرة وتأثير في الحاضنة الشعبية للثورة. ورغم أن جميع مؤسسات المعارضة الرسمية تطالب بالمعتقلين، إلا أنه لا يوجد لديها أي برنامج عمل أو خطة للتعاطي مع هذه القضية، ولا يوجد أي درجة من درجات التنسيق بين الائتلاف وهيئة المفاوضات واللجنة الدستورية ولا حتى منظمات المجتمع المدني لتشكيل قاعدة بيانات حول المعتقلين. ولم تتمكن هذه المؤسسات على مدار السنوات العشر الماضية من إطلاق سراح أي معتقل من سجون عصابات الأسد، ناهيك عن إحراز أي اختراق في ملف المعتقلين سوى إفراج عصابات الأسد عن أسماء آلاف المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في تحدٍ واضح وصارخ لرعاة هذا المسار وللمجتمع الدولي.
وإن كان هذا المسار بمطابقته بالنهج الجديد المطروح من قبل الوكيل الأممي لتنفيذ القرار 2254 الذي طرح نهج حل القضية السورية عبر مقاربة “خطوة بخطوة” والتي لا يمكن اعتبارها سوى محاولة للهروب إلى الأمام بعد ثماني جولات تفاوضية في جنيف على مدار أربعة أعوام، ثم ست جولات للجنة دستورية استغرقت أربعة أعوام أخرى، إلى جانب سبع عشرة جولة محادثات في أستانة، خرقت خلالها عصابات الأسد كل اتفاقياتها دون استثناء. إضافة لكونها خضوعاً تاماً للابتزاز الروسي والإيراني، ومكافأة لعصابات الأسد على تعطيلها الحل، وجعل الملف السوري ورقة تفاوضية وأداة إبتزاز روسية لدول الناتو مقابل ملف أوكرانيا وغيره من الملفات الروسية الغربية العالقة.
فقرار مجلس الأمن الذي مضى عليه ست سنوات، لا يُرى بصيص أمل في تنفيذه بعد، بغض النظر عن رؤية المبعوث الأممي الذي لديه القناع بأن التقدم سيكون تدريجياً، مع ضرورة عدم توقع معجزات أو حلولاً سريعة. مما يرسخ القناعة لدى الحاضنة الشعبية للثورة بأن العملية السياسية الجارية هي التفاف حقيقي على القرار 2254، الذي تضمن انتقالًا سياسيًا شاملًا في سورية تديره “هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية”.
في وقت تواصل روسية زيادة وتيرة التوسيعات في المنشآت والبنى التحتية للقاعدة العسكرية في حميميم، بما يسمح للمقاتلات الروسية المتطورة وطائرات الشحن العسكري العملاقة باستخدام المطار للإقلاع والهبوط. إضافة إلى نشر منظومة دفاع جوي متطورة في مواجهة خصم لا يمتلك أي قدرات جوية (سواء المعارضة أو تنظيم داعش)، مما يؤدي إلى تعقيد مهمة الولايات المتحدة وحلف الناتو في توجيه ضربات عسكرية إلى عصابات الأسد. أما على المستوى الأوسع، فإن صواريخ روسيا في حميميم أعطت موسكو نفوذاً جوياً في منطقة تحلق فيها طائرات أميركا وحلف الناتو بكثافة، بما يشمل شرقي البحر الأبيض المتوسط وأجزاء كبيرة جنوبي تركيا وشمالي الأردن ومعظم سورية وأجزاء من شرقي العراق. كل ذلك كان إشارة واضحة إلى أن دور قاعدة حميميم سيكون أكبر من سورية، حيث أصبحت لموسكو اليوم يد على البحر المتوسط الذي يعد خاصرة أوروبا الجنوبية وبوابة أفريقيا الشمالية.
وهنا يعود الدور علينا في استيعاب السياسة الأميركية تجاه سورية، التي من الصحيح أنها تستند للمصالح وموازين القوى والأهداف المتوخاة من هذه المنطقة من العالم، وصحيح أن المأساة السورية وصلت إلى حدود لا يمكن معالجتها بصورة ناجعة إلا عبر توافق دولي وتدخل خارجي حاسم، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة جهوداً يُفترض أن تُبذل باستمرار من قبل السوريين الطامحين بتفعيل الدور الأممي، واستثمار الفرص المتاحة لبلورة كتلة ديمقراطية مقنعة يمكنها أن تغير الصورة المؤسفة للمعارضة السورية حتى الآن، والتقدم لنيل الثقة كبديل للنظام القائم المتمثل بعصابات الأسد وداعميه.
وحيث إن معظم دول العالم أوقفت الكثير من دعمها للمعارضة، ولم تعد تعنيها سورية إلا بصفتها خبراً، أو مادة معلومة أو بحثاً، أو تصفية حساب مع الآخرين عبر الجغرافية السورية، بينما عصابات الأسد وداعميه يلعبون اليوم بمساحات إضافية دبلوماسية. فإنه باعتقادنا لا حلّ بغير الحوار بين السوريين المعارضين أولاً لإنتاج رؤية متقاربة للتغيير المنتظر وأهدافه، هذا التغيير الذي يمكن تجسيده بدولة المواطنة التي يفترض أن تكون الحل الأمثل، دولة الحقوق والواجبات، التي تحرص على الإفادة من مكوناتها ومنظوماتها، ولا تستثني أحداً من البناء، بالرغم من كون من بقي على الأرض يرون أنهم وحدهم من أبقى جذوة التغيير، ويعتقدون أنَّهم أولى بتحديد مآلاته.
المصدر: اشراق