كثيرٌ من الأشياء العظيمة في حياتنا وفي حياة البشرية جاءت بها الصدفة، ولكن السؤالَ المهمَّ هل من الممكن أن نصنع الصدفة؟
صناعةُ الصدفة أمرٌ هامٌّ جدًا،علينا أن ندركَ ماهيتَه ودينامياتِه كبشر، لكن قبل أن نتحدثَ في ماهية وديناميات صناعةِ الصدفةِ علينا أن نعطيَ مثالًا على الصدفة وكيف تصنع التغيير في حياة البشر.
في عام 1951 بعد أن أزال الطبيبُ هوارد جونز، الطبيبُ المعالج لهنرييتا لاكس Henrietta Lacks البالغة من العمر 31 عام آنذاك، جزءًا من الورم الكامن في عنق رحمِها دون علمِها، وأرسل العينة إلى المختبر لتحليلها، لاحظ البروفيسورُ الأميركي، الألماني الأصل، جورج أوتو جاي، الذي كان يرأس مختبرَ زراعةِ الأنسجة بجامعة جونز هوبكنز في ذلك الوقت؛ أن هذه الخلايا لا تتصرفُ كالخلايا العادية، فهي تمتلكُ القدرةَ على التكاثر خارج الجسد مرارًا وتكرارًا وهو الأمرُ الذي لم يحدثْ من قبلُ في تاريخ زراعة الأنسجة. قبل اكتشافِ هذه الخلايا الفريدة، كان العلماء يصارعون من أجل استنبات الخلايا البشرية وإبقائها حيةً لفترة كافيةٍ لإجراء تجاربِهم عليها، وكانوا يفشلون رغمَ كلِّ شيءٍ ولكن مع خلايا هيلا (HeLa) كما أُطلقَ عليها، اختصارًا لاسم صاحبتها، صار المستحيلُ ممكنا.
بدافع من الشغف بالعلم، سارع البروفيسور “جاي” إلى إرسال عيناتٍ من هذه الخلايا لمختلف المختبرات حول العالم، حتى تعمَّ الفائدةُ من استخدامها في الأبحاث الطبية وتطوير الأدوية واللقاحات، ولم يتكسّبْ ماديًّا من وراء هذا الأمر، وإنما كان يرسل العينات على حسابه الشخصي أحيانًا لأن التكسبَ من وراء الاكتشافات الطبية في ذلك الوقت كان يُعَدُّ عملًا غيرَ أخلاقي يرفضُه المجتمعُ العلمي، لكنه غفل عن إبلاغ المريضةِ صاحبةِ الخلايا الأصلية بنواياه أو حتى باكتشافه المثير، وتوفيتْ وهي لا تعلم أن اسمَها سيظل خالدًا إلى الأبد، وأن خلاياها سيتم استغلالها من أجل العلم أحيانًا ومن أجل التربح بملايين الدولارات في أحيان أخرى، بينما تعيشُ عائلتُها في فقر مدقع وبلا تأمينٍ صحي في أحيان كثيرة.
دعونا نتخيل للحظةٍ عالَمًا لم تُولَد فيه هنرييتا لاكس، أو عالما لم تصبْ فيه بسرطان عنق الرحم، أو -ببساطة- عالما لم يهتمَّ فيه أحدٌ بأخذ عينة من الورم لفحصها، مجرد ورم عادي سنقوم بإزالته وإرساله للمحرقة. كان من المتوقع أن يُصابَ ما يقرب من 17 مليون طفل حول العالم بشلل الأطفال لو لم تُستخدَم خلايا هيلا لتطوير لقاحِ “سُلك” الشهير الذي أسهم في القضاء على المرض حول العالم بنسبة 99%. بالمثل، أسهمت خلايا هنرييتا في جهود القضاء على المرض نفسِه الذي أودى بحياتها، فبعد اكتشافِ العلاقة بين فيروس الورم الحليمي البشري (HPV) وسرطان عنق الرحم، طُوِّر لقاحٌ فعالٌ ضد الفيروس باستخدام خلايا هيلا، ويبدو أن العالم في طريقه للقضاء على سرطان عنق الرحم بحلول نهاية القرن الحالي.
هذا ولم نتحدث بعدُ عن دور خلايا هذه المرأةِ في عدد من الكشوف العلمية المهمة، وفي مقدمتها اكتشافُ أن عددَ الكروموسومات داخل الخلية 23 زوجًا، واكتشافُ الخريطةِ الكاملة للجينوم البشري، ودراسةُ تأثيرِ الأشعة السينية على الخلايا البشرية، وتطويرُ مناهجِ بحث مرض السرطان، وفهم آلية حدوث العدوى لبعض الميكروبات مثل (السل، الإيدز، السالمونيلا، الإيبولا، وأخيرا كوفيد-19)، ناهيك بالعديد من الاكتشافات الحائزة على جوائز نوبل في الطب و الفسيولوجيا والكيمياء أعوام (2008 و2009 و2014).
رغم أن خلايا هيلا ليست الخلايا الخالدة الوحيدة التي تُستخدَم في البحث العلمي، فإنها الأولى من حيث الاكتشافُ، والأكثرُ شهرةً واستخدامًا حتى الآن. بعد سبعة عقود من اكتشافها، فإن خلايا هيلا عاشت في المختبرات ضعف الوقت الذي أمضته داخل جسد هنرييتا. لو كان لنا أن نجمع كلَّ خلايا هيلا التي تكاثرت حتى الآن، لَتحوّلت إلى خيط طويل يمتد إلى مسافة 120000 كيلومتر، أي إنه يستطيع أن يلفَّ حول الكرة الأرضية 3 مرات. لكن بعد كلِّ هذه الأعوام وملايين الانقسامات الخلوية والتغييرات في التركيب الجيني للخلية، يرى مجموعة من علماء البيولوجيا أن خلايا هيلا أصبحت جنسًا جديدًا قائمًا بذاته، ولم تعد خلايا بشريةٍ بعد الآن.
حكاية هنرييتا لاكس.. حكاية الأمِّ الفقيرة التي أنقذت 25 مليون طفل حول العالم، مثالٌ حيٌّ على صناعة الصدفة. لن ندخل في ماهية الصدفة التي أعدُّها تدبيرًا الهيًّا صرفًا تعجز العقولُ البشرية عن إدراكها،لكن سنبحث في ديناميات صناعتِها التي تقع تحت سيطرةِ البشر:
- 1. ترصُدُ الصدفة: في كثير من الأحيان يُعدُّ ترصدُ الصدفة واجبًا على كل فرد في البشرية منذ بدءِ الخليقة وربّما تكون حادثةُ دفنِ الغراب التي التقطها قابيلُ ليدفنَ هابيل (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ) [المائدة 31] تعدُّ من أوائل الصدف.
- 2. الحاجةُ هي المحركُ الرئيس لصناعة الصدفة: وهنا بدلًا من أن نقولَ “الحاجة أم الاختراع” , يصح أن نقول “الحاجة هي أمُّ صناعة الصدفة”, فلولا الحاجةُ لاستنبات الخلايا البشرية وإبقائٍها حيةً لفترة كافية لإجراء تجاربَ عليها , لما كانت صدفةُ اكتشاف خلايا هنرييتا ممكنًا.
- 3. الرغبة في صنع التغيير بلا مقابل: وهنا يقع البشرُ في معضلة أخلاقيةٍ هل صُنْعُ التغييرِ يجب أن يكونَ له مقابلٌ أم لا ؟ صناعةُ الصدفة تشكل فيها رغبةُ البشر في تحسين ظروفِهم حجرَ زاوية , ولكن السؤالَ الجوهري الفلسفي هلِ المقابلُ الماديُّ وغيرُ الماديِّ عنصرُ نجاحٍ أم فشل؟ أم لا هذا ولا ذاك؟! ” وَاَنْ لَيْسَ لِلْاِنْسَانِ اِلَّا مَا سَعٰىۙ ﴿٣٩﴾ وَاَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرٰىۖ ﴿٤٠﴾ ثُمَّ يُجْزٰيهُ الْجَزَٓاءَ الْاَوْفٰىۙ ﴿٤١﴾ وَاَنَّ اِلٰى رَبِّكَ الْمُنْتَهٰىۙ ﴿٤٢﴾ وَاَنَّهُ هُوَ اَضْحَكَ وَاَبْكٰىۙ ﴿٤٣﴾ وَاَنَّهُ هُوَ اَمَاتَ وَاَحْيَاۙ ﴿٤٤﴾”[النجم 39-43] تسلسل عجيب كجواب محتمل لهذا السؤال!
4.تهيئةُ البنيةِ التحتية لصناعة الصدفة فرضُ عين على الشعوب ومن يمثلها من أشكال الحكم السياسي: وهنا تبدو البنيةُ التحتية شكلًا هرميًّا يبدأ بحاجات الإنسانِ الأساسية من طعام وشراب ومأوى وحياة جنسية منضبطة ويتوجُ برؤيةٍ جماعية لإعمار الأرض وإيجادِ حلول عادلة لصراع طبقة المستكبرين مع طبقة المستضعفين، ومن هنا تصبح صناعةُ الصدفة ليس حكرًا على الأغنياء و المتمكنين في الأرض بل كذلك تنبت من طبقة المستضعفين.
5.صناعةُ الصدفة أساسُ مهمةِ الاستخلاف التي أوكلها الله للجنس البشري ” إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا “[ الأحزاب -72], إذا لا فلاحَ إلا بتمكين صناعة الصدفة وهنا تكمن حقيقةُ أدركَها علماء المسلمين عبر تاريخهم الطويل وتحطمت منذ قرون على أعتاب المدرسة البراغماتية التي تستغني عن إحدى الديناميات الخمسة السابقة تحت مسمى فقه الواقع فيسقط كامل المشروع!
قد يجادل بعضُهم أن العلمَ التجريبيَّ هو صناعةُ الصدفة، لكن ما ندفع به هنا أن صناعةَ الصدفةِ علمٌ أوسعُ بكثير من العلم التجريبي فهو مفهومُ حياةٍ وأداةُ نجاةٍ لأعمارنا القصيرة على هذا الكوكب!