عموماً لا تروم المناهج الدراسية إلى إكساب متعلميها المهارات والخبرات العلمية (مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها) وحسب، ولكنها تهدف إلى بناء الهوية الفكرية والاجتماعية والمعرفية والوطنية (مواد الدراسات الاجتماعية)، فضلاً عن التربية الأخلاقية والجمالية والدينية والوطنية والسياسية، وفنون التنمية المهارية في إدارة شؤون الحياة وتنوعها.
ولا تخلو المناهج الدراسية من لوثة السياسة ومفاعيلها، بل هي انعكاس لطبيعة الوعي السياسي الحاكم لهذه الدولة أو تلك؛ لأنها – أي المناهج – الأداة التي تنفذ سياسات الدول في تحقيق غاياتها التربوية والسياسية والاجتماعية وغيرها. في الأنظمة الديموقراطية تبنى المناهج الدراسية المنفتحة على أسس التفكير النقدي، لذلك تخلق أفراداً واعين وفاعلين في حياتهم الاجتماعية والفكرية والوطنية. أما المناهج الدراسية المغلقة القائمة على أخلاق الطاعة في الأنظمة الاستبدادية كما في الحالة السورية، فإنها تصنع رعايا مؤدلجين، لا دور لهم في حياتهم الاجتماعية والفكرية والسياسية وغيرها. هذا يعني أننا في الحالتين المذكورتين – الديموقراطية والديكتاتورية – أمام حقيقة أن السياسة هي التي تحكم طبيعة المنظومة التعليمية للدولة وتحدد مساراتها وأهدافها.
ما مشكلات المجتمع السوري؟
لم تكن المنظومة التعليمية السورية خارج الصراع السوري، بل كانت إحدى أهم أذرعه الناعمة في إعادة صياغة “تربية السوريين”، فالمناهج الدراسية نهضت بمهمة الانتقال من قيم الولاء (التي مثلتها مناهج 2011م) بعد أن ثار القسم الأكبر من السوريين ضد ظلم سلطته الحاكمة وقهرها، إلى أخلاق الطاعة (التي مثلتها مناهج 2017م)، هذا ما يفسر لنا سعي السلطة الغاصبة في خضم حربها على السوريين لتغيير المناهج التعليمية خلال خمس سنوات بعد أن كانت مناهجها تستمر عشرات السنوات دون تعديل أو تغيير.
في كتاب التربية الوطنية الموجه لطلاب الصف التاسع الصادر عن وزارة تربية النظام السوري عام 2019- 2020م، عنونت الوحدة الأولى منه بـ مشكلات المجتمع العربي المعاصر، ناقشت دروسها الانتماء الوطني والمواطنة، وأيضاً علاقة المواطنة والديمقراطية والانتماء الوطني، إضافة إلى درس سلطات الدولة المتعددة، ورعايتها الصحية، ودرس رابع عن المنظمات الشعبية في سوريا: الاتحاد العام للفلاحين، والاتحاد العام لنقابات العمال، أما الدرس الخامس فيها فهو: مشكلات المجتمع العربي السوري، وهو العنوان ذاته لهذه الوحدة الأولى كما ذكرنا سابقاً.
ليس عنوان الوحدة الدراسية أو الدرس الأخير فيها وحده يعبر عن عمىً إيديولوجيٍ قومي عتيق يتجاهل المكونات السورية غير العربية الأخرى: الأكراد والتركمان والآشوريين والسريان وغيرهم، الأمر الذي يجعله يتناقض مع أفكار الدرس الأول في الوحدة نفسها، التي تتناول الانتماء الوطني والمواطنة، وتكرس الحالة الوطنية دون التمييز على أساس عرقي أو ديني أو غيره من أشكال التمييز الأخرى، بل ما يندرج تحته من تحديد الدرس المذكور لمشكلات المجتمع السوري، والتي يختصرها بمشكلتين اثنتين هما:
المشكلة الأولى هي البطالة: لا يحدد الدرس أسباب البطالة، بل يحدثنا عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة للحد منها، وهي زيادة فرص العمل في القطاع العام، وتشجيع القطاع الخاص والمشترك، إضافة إلى الاستثمار المحلي والعربي والأجنبي، وتقديم القروض الخاصة وتشجيع المشاريع الصغيرة.
أما المشكلة الثانية فهي المواصلات التي يعيد الدرس أسبابها إلى عدم الالتزام والتقيد بالقواعد المرورية، وقلة الجسور والأنفاق، والزيادة الكبيرة في عدد السيارات، إضافة إلى قلة عدد السيارات العامة الجماعية، وتمركز الدوائر الحكومية في مركز المدينة.
ثم يقترح الدرس حلولاً (مبتكرة) لمعالجة هذه المشكلة الكبيرة وهي زيادة الوعي المروري من خلال البرامج الإذاعية والتلفازية واللافتات الطرقية، وتأكيد تطبيق التعليمات المرورية ومراقبتها (تحديد السرعة)، وتوسيع الطرقات، وبناء الجسور والأنفاق، والأهم تحديد اتجاهات السير في بعض الطرقات ومنع دخول السيارات الكبيرة داخل المدينة، إضافة إلى إحداث مواقف خاصة وعامة لوقوف السيارات داخل المدينة. ولا ينسى الدرس المعلومات الداعمة له من الصور أو المستندات المرفقة من قانون السير من حبس وغرامات لمخالفي القوانين التي تخص الوقوف بعكس اتجاه السير في الطرق وغيرها.
التربية على التعامي
يتجاهل النظام السياسي الأسدي مشكلات الواقع الكارثي الذي تعيشه سوريا منذ عشر سنوات، الدمار المادي والتشظي الاجتماعي، وتهجير أكثر من نصف الشعب خارج سوريا، ونزوح بعضه الآخر في مخيمات داخل الحدود السورية وخارجها، إضافة إلى وجود الجيوش الخارجية المتعددة في المناطق السورية، وانتشار القواعد العسكرية الأجنبية في كل منطقة سورية، وتقسيم سوريا إلى مناطق نظام ومناطق معارضة وإدارة ذاتية في الشمال والشرق السوري.
كما يتعامى النظام الاستبدادي عن مشكلات الواقع السوري – المذكورة – التي تهدد حاضر سوريا ومستقبلها، تتجاهل المناهج الدراسية مشكلات المجتمع السوري الحقيقية، بل وتقوم بمهمة التربية على التعامي تجاه المشكلات الحقيقية التي تواجه السوريين الآن ومستقبلاً في السياسة والاقتصاد والمجتمع والتربية، والتعامل معها كأنها مشكلات غير موجودة، وتتقصد عدم اطلاع الطلاب – من هم في هذا السن (15) الصف التاسع – على مشكلات مجتمعه الحقيقية ولا التفكير بها، عبر التوجه إلى إلهائهم بمشكلات هامشية مثل المواصلات أو البطالة في بلد يعيش حالة الحرب منذ سنوات، دون التفكير بأسبابها الحقيقية ومسبباتها ألا وهي مشكلة الاستبداد الأسدي بكل أشكاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية.
لا خلاص للسوريين إلا بدولة المواطنة بديلاً لسوريا الأسد، دولة حرة تكرس مناهجها الدراسية المنفتحة الانتماء للوطن على أسس إنسانية دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو المذهب أو الجنس، دولة يعترف نظامها السياسي بمشكلات مجتمعه الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، دولة يشارك مواطنوها جميعاً بالمساهمة في مواجهة هذه المشكلات وحلها، كل حسب مسؤوليته.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا