لا يكاد أحد يذكرما جرى ويجرى لليمن ، البلد العربى الأصيل العريق حضارياً ، الذى فقد صفة “السعيد” اللصيقة من زمن ، وتحول إلى جغرافيا حرب تبدو بلا نهاية ، لا تؤدى فيها الأطراف اليمنية سوى أدوار “الكومبارس” الهامشية ، بينما أدوار البطولة محجوزة لأطراف غير يمنية بالهوية أو بالهوى ، فى خبر يومى كئيب طافح بسيل الدماء والدمار ، مل السامعون من تكراره ، وتبادل الجولات فيه ، بين غارات التحالف السعودى الممتدة من “صنعاء” إلى “مأرب” و”الحديدة” ، وهجمات “الحوثيين” بالطائرات المسيرة والصواريخ “الإيرانية” على المدن السعودية ، من “الرياض” إلى “خميس مشيط” ومنشآت “أرامكو” ، ومن دون أمل قريب فى جلاء الغبار عن وجه اليمن الحزين المتوارى .
ولا تعدم من يلوك كلاما بائسا طوال قرابة سبع سنوات تنقضى ، عن المبادرة الخليجية ونتائج مؤتمر “الحوار الوطنى” وقرارات مجلس الأمن ، وعن “الشرعية اليمنية” ، الهاربة التائهة برئاستها الافتراضية فى قصور الرياض المخملية ، وعن حكومتها المستضافة أحيانا فى “عدن” أقصى الجنوب ، بينما “الحوثيون” يتبجحون بأنهم صاروا حكومة اليمن كله فى العاصمة “صنعاء” ، ويدفعون بعشرات الألوف من المساكين إلى محارق النار ، فلا شئ يهم عندهم ، سوى مواصلة الحرب واستمرار القتال ، الذى أسقط فى أيديهم أنقاض أغلب محافظات الشمال اليمنى حتى اليوم ، من “صعدة” إلى “عمران” إلى “حجة” إلى “المحويت” إلى “صنعاء” إلى “ذمار” إلى “ريمة” إلى “إب” إلى “البيضاء” ، ولم يتبق للقوات المناوئة المدعومة من السعودية فى المقابل ، إلا وجود مزعزع من قبل الحوثيين ، فى محافظات “الجوف” و”تعز” و”الحديدة” و”مأرب” ، وقد تحولت الأخيرة إلى عنوان معركة مميتة على مدى يقارب العام الأخير كله ، يستميت فيها “الحوثيون” ، ويخوضون قتالا انتحاريا ، فقدوا فيه نحو عشرين ألفا من مقاتليهم ، وسيطروا على معظم مديريات “مأرب” ، ومن دون أن يبلغوا فيها هدفهم بعد ، الذى هو ليس إلا مدينة “مأرب” وما حولها من حقول البترول والغاز الطبيعى ، وهى الجائزة التى يسعون لنيلها ، خصوصا مع ضعف الموارد الطبيعية فى محافظات الهضبة الشمالية ، بينما لم يعد جنوب اليمن موضع اهتمام فى حساب الحوثيين ، برغم وجود هامشى لهم فى محافظة “الضالع” ، التى يسيطر على أغلبها “المجلس الإنتقالى الحنوبى” ، إضافة لسيطرته على “عدن” و”لحج” و”أرخبيل سقطرى” ، والمجلس المذكور ممول إماراتيا كما هو معلوم ، ويهدف لفصل محافظات الجنوب كلها ، لكنه يعجز عن اتمام سيطرته العسكرية جنوبا ، فلا تزال القوات “الشرعية” المدعومة سعوديا هناك ، وتنازع قوات “الانتقالى” فى محافظة “أبين” ، إضافة لوجودها المنفرد فى محافظات “المهرة” و”شبوة” و”حضرموت” ، وينشعل الطرفان غالبا باشتباكات متواترة ، تفشل اتفاقات “الرياض” فى وقفها كل مرة ، وكأن كل الأطراف “الشرعية” صارت تكتفى بقسمة الجنوب ، وتترك للحوثيين فرصة إكمال السيطرة شمالا ، خصوصا بعد الانسحابات المريبة من “الحديدة” وسواحلها ، بدعوى التفرغ والنهوض لخوض معركة “مأرب” ، التى هرب إليها مليونا مواطن يمنى نازح ، يطاردهم “الحوثيون” إلى أدنى حدود الشمال ، ويهددونهم باللحاق بمصائر نحو 300 ألف مواطن قتيل ، فوق مآسى التشريد والفقر والجوع والأوبئة ، التى أهلكت وتهلك ثلثى سكان اليمن ، أى 20 مليون من الثلاثين مليون يمنى ، إضافة لملايين هربت من الجحيم إلى عواصم الشتات العربى وغير العربى .
والمعنى للأسف ، أنه لم يعد من شئ “يمنى” فى الدراما اليمنية ، اللهم إلا نصيب الضحايا النازفين والنازحين والمعوزين والمشردين والجائعين والمقتولين والثكالى ، فقد تكون الحروب قدرا لا مفر منه أحيانا ، وعدالة الحرب إن وجدت من عدالة قضاياها ، لكن الحروب فى اليمن وعليه تبدو بلا قضية عادلة ، أو بقضية جرى طمس ملامحها ، حملت اسم الدفاع عن واسترداد “الجمهورية” ، وردع انقلاب “الحوثيين” منذ سبتمبر 2014 ، و”الحوثيون” من طينة “المملكة المتوكلية” ، الأكثر تخلفا وظلامية فى مطلق التاريخ الإنسانى ، وظلت قائمة من 1918 إلى 1962 ، حين قامت ثورة “الضباط الأحرار” ، وأعلنت قيام “الجمهورية” ، التى انتصرت لها قوات مصر عبد الناصر ، بينما حاربها ملوك السعودية خوفا على عروشهم ، وبتعاون ظاهر وخفى مع أمريكا وإسرائيل و”الإخوان” وبريطانيا المحتلة للجنوب وقتها ، ولم تتوقف حرب السعودية ضد “الجمهورية” اليمنية حتى بعد رحيل عبد الناصر ، وبدت أصابعها ظاهرة فى عملية اغتيال الشهيد الناصرى “إبراهيم الحمدى” عام 1977 ، وقد كان الحمدى أعظم رؤساء اليمن الجمهورى ، وبعد تغييبه ، عملت المملكة السعودية على تفريغ الجمهورية اليمنية من أى معنى جمهورى ، ودفعت لحكم على عبد الله صالح ثلاثينى السنين عشرات المليارات من الدولارات ، كان يعطى منها لعائلته وقبائل المقربين و”الأفاعى التى كان يرقص فوق رؤوسها” كما كان يحب أن يقول ، وإلى أن جرى قتله على يد “الحوثيين” فى 2 ديسمبر 2017 ، بعد أن كانت السعودية أعلنت الحرب ضد الحوثيين أوائل 2015 ، ومن دون قضية ذات مصداقية ، فالحوثيون مجرد نسخة محدثة إيرانيا للإمامة المتوكلية ، التى حاربت السعودية من أجلها ، وجاءت الدعوى هذه المرة تحت عنوان إنقاذ الجمهورية ورئيسها “عبد ربه منصور هادى” ، وكأن السعودية “الملكية” العضود ، يرد أن تنتصر لقضية جمهورية ، وهو افتراض عبثى تماما ، بينما القصة فى مكان آخر ، فالسعودية لا تريد حكما فى اليمن ، إلا أن يخضع لمشيئتها وأولويات عائلتها المالكة ، و”الحوثيون” على تخلفهم الفكرى ، ونزعتهم “السلالية” العنصرية ، وتزويرهم و”تشييعهم” للمذهب “الزيدى” ، يريدون حكما إماميا كالذى كان قبل ميلاد الجمهورية ، وليست هذه مشكلة السعودية مع الحوثيين ، بل المشكلة فى خطرهم الأمنى ، وفى كونهم أداة لإيران التى تحارب الحكم السعودى ، فوق دعوى الحوثيين “الهاشمية” المناوئة تاريخيا لحكم الأسرة السعودية ، وهذه كلها جوانب خطر وجودى ، تدفع الحكم السعودى لخوض حرب لا أمل فى كسبها ، ولا وقف نزيف خسائرها المدمرة للهيبة السعودية المفترضة فى منطقة الخليج ، فوق ضرائب الدم ومئات المليارات من الدولارات ، وهو ما يدفع الرياض للبحث عن تسوية مع “الحوثيين” ، أو بالدقة تسوية مع “إيران” التى توظف “الحوثيين” عبر جسور اتصال وتفاوض فى بغداد وفى غيرها ، وعبر حث الرعاة الأمريكيين على تدخل مباشر ، بينما واشنطن لا يعنيها سوى استمرار الصراع ، وسوى المزيد من حلب المال السعودى ، وبينما طهران لا تبدو مستعدة لتسوية تريح السعوديين ، وتضيف الحوثيين إلى مجموع أوراقها الضاغطة على الأمريكيين وتوابعهم ، وتربط مصير نزاعات المشرق العربى والخليج كلها بمصير برنامجها النووى ، وبمفاوضات “فيينا” الجارية المتعثرة لإحياء الاتفاق النووى ، ولإلغاء العقوبات الأمريكية الخانقة للاقتصاد الإيرانى ، ولا مانع عند طهران من تأجيل الحسم فى اليمن إلى وقت مقبل ، تكون قد ضمنت فيه استقرار حكم أتباعها “الحوثيين” لكل الشمال اليمنى ، وبرضا واعتراف كامل من السعودية هذه المرة ، وبشروط لا تتعدى وقف هجمات الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية الإيرانية ، وضمان تأمين مدن السعودية ومنشآتها البترولية .
والمحصلة أخيرا وبوضوح ، أن السعودية مهتمة بمصائر وأمن مملكتها أولا ، وليس بمصير اليمن ولا بوحدة دولته التى تمزقت ، ولا بقضية “الجمهورية” اليمنية ضد “الإمامية الملكية” العائدة فى صورة الحوثيين ، ولا مانع عند الرياض من التضحية وقت الحاجة بالرئيس “هادى” وحكومته الكارتونية ، وبنتائج مؤتمر “الحوار الوطنى” ، الذى كان يمنيا جامعا قبل انقلاب الحوثيين ، وقضى بتحويل اليمن إلى حكم جمهورى فيدرالى بستة أقاليم (آزال ـ الجند ـ تهامة ـ حضرموت ـ سبأ ـ عدن) ، فقد صار ذلك كله من الماضى الذى لا يعود ، ولم يعد مطلوبا من جانب المتحاربين والممولين غير اليمنيين ، بل وضعت الحرب خرائطها وحدود الدم ، المحكومة بتقاسم مصالح قد تحين فرصته ، وقد تمنح فيه إيران حق الوصاية على إقليم عاصمته “صنعاء” تحت حكم الحوثيين ، وقد تمنح فيه السعودية حق الوصاية على إقليم عاصمته “المكلا” الحضرموتية تحت حكم الموالين ، وقد تمنح فيه “الإمارات” حق الوصاية على إقليم عاصمته “عدن” تحكمه جماعة المجلس الانتقالى ، بينما لا يبقى لمعنى اليمن الموحد الجمهورى ، ولا لملايين اليمنيين المعذبين المقتولين المعانين المهانين ، سوى حق قراءة الفاتحة فى جنازة اليمن الذى كان ، فقد انتفى كل معنى يمنى خالص فى الحرب الملعونة ، وصارت قسمة الكعكة اليمنية حقا حصريا للجيران الأقربين والأبعدين ، وهذا أخطر ما ينتظر اليمن بعد حربه الأخيرة ، التى لم تكن أهلية فى أى وقت ، بقدر ما كانت صداما وصراعا إقليميا ، ليس لليمنيين فيه ناقة ولا جمل ، ولا وطن يبقى ولا دولة تستعاد ، بل حرب إفناء ومحو ليمنية اليمنيين وبلدهم الضحية .
المصدر: الشراع