تثير الحشود الروسية على حدود أوكرانيا، والتي تقدّر الوكالات الاستخباراتية الأميركية أن تصل إلى 175 ألف مقاتل مع نهاية العام، مخاوف من احتمال قيام موسكو بغزو عسكري شامل لهذا البلد، ينطلق مع حلول أعياد الميلاد، حيث موسم العطل والإجازات، وهو ما سبق وفعلته موسكو عندما غزت أفغانستان يوم 25 ديسمبر/ كانون الأول عام 1979. ويبدو أنّ موسكو تفضّل هذا التوقيت أيضاً لاعتقادها أنّ الشتاء القارص سوف يمنع دولاً أوروبية عديدة من اتخاذ مواقف متشدّدة حيالها، خشية انقطاع إمدادات الغاز الروسية في وقتٍ تعاني فيه الأسواق من شحٍّ كبير وغلاء في الأسعار.
تأخذ الولايات المتحدة احتمالات حصول غزو روسي لأوكرانيا بجدّية مطلقة، ولذلك حذّرت موسكو من أنّها ستتخذ إجراءاتٍ غير مسبوقة في حال أقدمت على غزو أوكرانيا. كما أجرت، وتخطّط لإجراء، سلسلة مناورات في البحر الأسود في استعراضٍ للقوة لردع روسيا. وزوّدت، وتزود، أوكرانيا بأسلحة ومعدّات لمواجهة أي غزو محتمل لأراضيها، فما أهمية أوكرانيا حتى باتت تهدّد بوقوع مواجهة عسكرية في البحر الأسود، وما احتمالات وقوع مثل هذه المواجهة؟
تولي روسيا أهمية كبرى لأوكرانيا من النواحي الجيوسياسية والاقتصادية والتاريخية – الثقافية، فهي تعتبرها آخر منطقةٍ عازلةٍ مع الغرب، وسقوطها في دائرة النفوذ الغربي يعني أن حلف الناتو بات على حدودها الغربية. وتعدّ روسيا أوكرانيا جزءا من العالم الثقافي الروسي، إذ يتحدّث جزء معتبر من السكان اللغة الروسية، ويتشارك البلدان جزءا مهما من تاريخهما. وتمثل أوكرانيا أيضا جزءا محوريا من مشروع الاتحاد الأوراسي، وهو اتحادٌ اقتصادي – سياسي، على شاكلة الاتحاد الأوروبي، اقترحه الرئيس بوتين بين روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وأوكرانيا التي تعد جوهرة التاج في هذا المشروع، إذ بدونها لا يعود الاتحاد الأوراسي أوراسيا. لكن الولايات المتحدة استبقت التوقيع على اتفاقية إنشاء هذا الاتحاد في مايو/ أيار 2014، وأخرجت أوكرانيا من دائرة النفوذ الروسي. وكان بوتين استعاد أوكرانيا من الغرب بإيصال حلفائه إلى السلطة في انتخابات عام 2010، بعد أن كان خسرها في الثورة البرتقالية عام 2004. لكن واشنطن عادت في أواخر عام 2013 وموّلت حركة عصيان مدنية أدّت إلى سقوط حليف موسكو، الرئيس فيكتور يانكوفيتش. ردّ بوتين بغزو شرق أوكرانيا، وضم شبه جزيرة القرم، ردّت واشنطن بفرض عقوبات على روسيا، لم يحتمل بوتين تعامل واشنطن معه كدولة عالمثالثية، فردّ عليها في سورية.
السؤال الذي يشغل بال الاستراتيجيين الغربيين الآن: هل تغامر موسكو بغزو أوكرانيا، على الرغم من التهديدات الأميركية بأقصى العقوبات؟ يعتمد الجواب على حسابات بوتين وقراءته المشهدين، الأميركي والدولي. يعتقد بوتين أن الولايات المتحدة لن تغامر بمواجهةٍ مع موسكو من أجل أوكرانيا، وقد سبق له وغزا شبه جزيرة القرم وضمّها، وأقصى ما فعلته واشنطن حينها كان فرض عقوباتٍ اقتصادية، استطاع بوتين أن يتعايش معها. كما أن الرأي العام الأميركي ليس في وارد تأييد أي عمل عسكري في الخارج، في ظل تنامي مزاجه الانعزالي، وانهماكه بتداعيات تفشّي وباء كورونا. ويعتقد بوتين أيضا أن مصالح واشنطن في القارّة الأوروبية باتت محدودة مع انتقال مركز الثقل والصراع الدولي إلى شرق آسيا، ويأخذ بوتين بالاعتبار أيضا مخاوف واشنطن من أن تستغل الصين أي مواجهاتٍ محتملة في البحر الأسود لغزو تايوان وضمّها، كما يلحظ قلق واشنطن من حصول تقارب أكبر بين موسكو وبكين بسبب تردّي العلاقة مع كليهما. مع ذلك، لا يرجّح أن يُقدم بوتين على عمل عسكري كبير ضد أوكرانيا، لكنه يستغل ضعف الشهية الأميركية لأي مغامراتٍ خارجيةٍ جديدة لممارسة أقصى الضغوط على واشنطن، للحصول على تنازلات في عدة جوانب. يريد بوتين، مثلا، أن تقدّم واشنطن ضماناتٍ بعدم ضمّ أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، وأن لا تصبح أوكرانيا منطلقاً لأيّ عمل عسكري ضد موسكو، وأن تلتزم واشنطن برفع كل العقوبات التي فرضتها على روسيا منذ ضمّها القرم عام 2014. ستبقى هذه على الأرجح حدود الصراع على أوكرانيا، ريثما يتمكن بوتين من إيجاد طريقة قليلة الكلفة لاستعادة أوكرانيا إلى دائرة النفوذ الروسي.
المصدر: العربي الجديد