على وقع تضارب الأنباء بين استعدادات تركية لتوسعة المنطقة الآمنة في الشمال السوري، ونية أميركية في إخراج القوات المتبقية في منطقة الشرق الأوسط والانكفاء عن التدخل في حروب خارجية، نشطت الإتصالات الروسية مع مسؤولي ما يسمى بـ(الإدارة الذاتية) في شمال شرقي سورية في مسعى (كما يُزعم) لبحث التسوية السياسية السورية على أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، وإعادة تأهيل الاقتصاد وعودة اللاجئين والنازحين وتقديم المساعدات الإنسانية للمحتاجين إليها، وهو الغطاء الذي يتحرك الروسي من خلاله لضمان ترسيخ أقدامه أكثر في شرقي الفرات، وهي المنطقة الأهم في سورية، والحصول على مكاسب حقيقية لعصابات الأسد في المنطقة الزاخرة بالثروات، والتي طالما خطط لاستعادتها لتحسين اقتصاده.
حيث دارت في الأيام الأخيرة مناقشات من ضمنها المقترح الروسي بدخول 3 آلاف من جنود وضباط قوات عصابات الأسد إلى عين العرب “لحمايتها من خطر (الغزو التركي) كما ادعوا، الذي لا يزال قائماً وداهماً” على حد التعبير الوارد في المقترح، إلا أن الجانب الكردي رفضه وذلك تجنباً لتكرار سيناريو درعا في مناطق ما يسمى بــ(الإدارة الذاتية).
ومن المعلوم أن الأطراف الفاعلة في المشهد السوري تسعى جاهدت في الفترة الأخيرة لوضع ترتيبات جديدة لشمال البلاد، ربما تبدّل المعطيات في خريطة السيطرة، خصوصاً في شرقي نهر الفرات، وتشي التحركات السياسية المتلاحقة بأن هناك صفقة ما في شمال سورية يجري التحضير لها لتفادي تصعيد عسكري أكبر حيث تتطلع هذه القوى لتحقيق مكاسب على الأرض على حساب “قسد”، التي باتت تجد نفسها أمام خيارات صعبة بالنسبة لمشروعها الحالم، في ظل موقف “متراخٍ” على الأقل إعلامياً من قبل الولايات المتحدة، الداعم الرئيسي لهذه القوات.
إذ أن تركيا ولتحقيق أمنها القومي تسعى لإبعاد قوات “قسد” عن حدودها الجنوبية، والسيطرة على جزء من المساحة واسعة التي تهيمن عليها هذه القوات وذراعها المدني “الإدارة الذاتية”، وإن كانت الأنظار تذهب نحو المدن والبلدات ذات الغالبية العربية، والتي من المتوقع أن تكون ضمن المرحلة القادمة للعملية العسكرية التركية، في حال إعلان انطلاقها، حيث توضع بشكل عام أربعة مناطق ممكن أن تستهدف في أي تحرك عسكري قادم (عين العرب – تل رفعت – منبج – عين عيسى) لما لهذه المناطق من أهمية استراتيجية وعلى رأسها تل رفعت التي تشكل نقطة تمركز مهمة شمال مدينة حلب ومطّلة على الطريق الدولي حلب – غازي عنتاب كما أنها ذات تهديد مباشر على نفوذ إيران في بلدتي نبل والزهراء.
وإن كان الأمن القومي التركي يتطلب (حالياً على الأقل) البقاء في الشمال السوري، خصوصاً في إدلب وريفها، بعكس الرغبة الروسية التي تطمح إلى استعادة عصابات الأسد السيطرة على المنطقة”، ولو من خلال مساومة لإنسحاب تركي من شمال غربي سورية، مقابل القضاء على بعض معاقل تنظيم حزب العمال الكردستاني في شمال شرقي سورية بالرغم من تعهدات أميركية بالحفاظ على استقلالية شمال شرق سورية في إطار أي حل تدريجي للوضع السياسي العام في سورية.
من هنا يمكن فهم محاولات السعي الروسي لبلورة ملامح تحالف أو تنسيق على الأقل، بين “قسد”، وعصابات الأسد ولا سيما في كل من الرقة والحسكة شرقي البلاد، وهنا تبرز أهمية الضمانات التي تطلبها “قسد” من الروس وعصابات الأسد، إذ ما يزال مشهد الخذلان الذي تعرضت له قواتها خلال عملية غصن الزيتون في عفرين. كما لا يغيب عن ذهنهم مصلحة عصابات الأسد في إضعاف القوات الكردية وإجبارها على العودة إلى بيت الطاعة، ليس فقط بالتماهي مع قوات عصابات الأسد ضمن صيغة يتفق عليها الطرفان، وإنما بحل وإنهاء أي شكل من أشكال المليشيا التي تُبقي للأكراد أو غيرهم كياناً واضح المعالم، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي، وهو الدرس الذي برز من خلال ماحدث أخيراً في درعا، وهو ما جعله محور خلاف خلال كل المحادثات التي جرت بين الأكراد وعصابات الأسد، سواء في دمشق أو الحسكة تحت الرعاية والتنسيق الروسي.
وإن كان حزب “الاتحاد الديمقراطي” (PYD)، قد أبدى استعداده في الأيام الأخيرة لتسليم حقول النفط في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” شمال شرقي سورية إلى عصابات الأسد، بشرط أن يكون ملف النفط والثروات الموجودة في المنطقة جزءاً مما وصف بعملية “الحوار النهائية” للقضية السورية. حيث تزداد الضغوط على مسؤولي “قسد” ووضعها أمام خيارات ثلاثة تتمثل في: إما إنضمام عناصرها إلى عصابات الأسد كأفراد مع منحها بعض الامتيازات الإدارية في إطار قانون الإدارة المحلية، وإجراء بعض التعديلات عليه بضمانات روسية، حيث يضمن الاتفاق لـ”قسد” الحفاظ على بعض المكتسبات مع عودة ما يسمى بــ (مؤسسات النظام). أو الإنضمام إلى عصابات الأسد من خلال فصيل عسكري يتبع مباشرة للروس على غرار اتفاق درعا، والحفاظ على الهيكل الإداري لمؤسسات الإدارة الذاتية لكن بشكل مختلف عن الهيكل القائم حالياً. أما الخيار الأكثر راديكالية فهو إبعاد كوادر “حزب العمال الكردستاني” وتوحيد الجبهة الداخلية والدخول في مفاوضات مباشرة وحقيقية مع تركيا والمعارضة السورية برعاية أميركية والتوافق على شكل من أشكال اللامركزية.
والعوامل الضاغطة لضرورة الإسراع في إنضاج الخيار الواجب تنفيذه يتمثل في التصعيد الروسي الذي ينطلق من حقيقة أن موسكو ترى أن الواقع الميداني المجمّد منذ آذار/مارس العام الماضي لم يعد مناسباً لرؤيتهم وللتطورات في الساحة الدولية. كما أن تركيا باتت أمام حاجة ماسّة لتوسيع مساحة المنطقة الآمنة التي أسستها في سورية، بغرض التخفيف من حدّة الاستقطاب والتوظيف لقضية مكافحة الهجرة وإعادة قسم من اللاجئين السوريين لتوطينهم في المنطقة الآمنة. حيث أن توسيع المنطقة الآمنة يعني تعزيز أمن الحدود الجنوبية التركية وعدم تدفّق المزيد من اللاجئين، وتهيئة الظروف أمام معالجة بيئة عدم الاستقرار، وفرصة ملائمة لدعم وتحسين موقف المعارضة السورية في العملية السياسية، التي تحرص تركيا على أن تخلص إلى تأسيس نموذج حكم في سورية يحقق الأمن والأمان على حدودها الجنوبية ويكون قاعدة انطلاق مستقبلية لعلاقات ترسم التقدم والرخاء للبلدين الجارين.
المصدر: إشراق