يقول منطق التاريخ وحركة التغيرات الإجتماعية والسياسية أن أية ثورة تزيح سلطة قائمة لاعتراضها على نهجها الكلي الشامل؛ لا بد وأن تنتهج نهجًا مخالفًا لذلك الذي أزاحته وعبأت الشعب ضده وانتصرت لتكون بديلًا نوعيًا عنه يكرس ما يخالف دعائمه الفكرية والقيمية ومرتكزاته الاجتماعية والثقافية.
حدث هذا في كل بلاد العالم التي حصل فيها تغيير ثوري سواء بالحراك الشعبي أو الإنقلاب العسكري أو غير ذلك.. غير ان شيئا من هذا لم يحدث في التغيير الذي طرأ على السلطة في إيران ونظام الحكم فيها بعد مجيء الخميني على أساس ” ثورة شعبية ” للإطاحة بنظام إمبراطوري إقطاعي حليف لقوى الإستكبار العالمي كما تسميها أدبيات ” الثورة ” الجديدة..
ففي حين أن نظام الشاه رضا بهلوي كانت له سياسة محددة واضحة المعالم محلياً وإقليمياً وعالمياً فكان حليفاً واضحاً للغرب الاستعماري يعادي كل التطلعات والحركات العربية التحررية وكل التجارب العربية للتنمية والنهضة والبناء ؛ كانت أساليبه واضحة معروفة إلى حد كبير وعداؤه للتحرر العربي ايضا فيما تأييده للكيان الصهيوني علني واضح لا لبس فيه..
فما هو الإختلاف مع نظام الملالي وما الذي تغير في نهج نظام الحكم الديني الجديد ؟
ما يهمنا في هذا السياق سياسة النظام الإيراني تجاه البلدان العربية فنتجاوز عن سياساته الداخلية تجاه أبناء شعبه..
١ – الحقد القومي على العرب..
تشكل سياسة نظام الملالي إستمرارا واضحا في العداء للعرب وتطلعاتهم التحررية مع زيادة في الحدة وتعمقا في الحقد وتوسعا في الأساليب والامكانيات المستخدمة لتحقيق الهدف..
ففي حين أن تدخلات نظام الشاه في الاوضاع الداخلية للبلاد العربية كانت محدودة الأثر قليلة الحيلة ؛ أتت تدخلات نظام الملالي لتخترق بنية المجتمعات العربية ونسيجها الإجتماعي تحت شعارات الدين والعصبية المذهبية والتحريض المذهبي والشعائرية الفارغة بإستخدام قضية فلسطين وألإستثمار فيها نظرا لتخاذل الوضع العربي وعمق قضية فلسطين في الوجدان الشعبي العربي..إستطاع النظام الديني الجديد إستخدام هذا الوضع النفسي العربي المتأزم جراء تهرب السلطة العربية من مسؤولية الرد على العدوان الصهيوني ؛ بتكثيف إعلامي مستمر يتحدث عن القضية ويجيد استغلال الشعارات التي تدغدع الوجدان العاطفي للانسان العربي فكان شعارات الموت لاميركا والصلاة في القدس والزحف وغير ذلك مما أفاد النظام الجديد في تحقيق إختراق نفسي عاطفي للعربي المتعطش لمثل هذا بعد أن كاد يفتقد سماعه من أطراف عربية نافذة..
إستند النظام الجديد على ركيزتين أساسيتين لتحقيق هذا الإختراق الذي جعله مقبولا من الشارع العربي عموما وإن إلى حين قبل أن تنكشف أطماعه وأحقاده وتحالفاته الدولية المعادية للعرب..
– الاولى دينية مذهبية من خلال تعظيم وتضخيم مشاعر المظلومية الدينية في مقتل الحسين ومعركة كربلاء ثم توظيفها في الوسط الشيعي العربي لاستخدامه جسر عبور لتسلله الى عمق المجتمع العربي ثم العبث به وتخريبه..
– الثانية قضية فلسطين والحاجة الملحة للرد على الغطرسة الصهيونية وعدوانها المستمر على العرب جميعا..
هنا برز الفارق بين نظام الشاه ونظام الملالي في أمرين اساسيين :
– الأول أن نظام الشاه كان يؤيد العدو الصهيوني وبالتالي كان مرفوضا على المستوى الشعبي العربي مما جعل دوره التخريبي محدودا جدا بل مقتصرا على علاقات ودية مع بعض النظم الرسمية الحليفة لأمريكا..
في حين أن نظام الملالي إكتسب مقدرة كبيرة في إختراق المجتمعات العربية والتسلل الى وجدانها وعمقها من خلال التحريض المذهبي والشعائرية الواعدة..
– الثاني أن نظام الشاه كان علمانيا ليبراليا وبالتالي ليس بإمكانه إستخدام الشعارات الدينية كوسيلة لخدمة أهدافه السياسية وتعزيز حقده على العرب والعروبة ومعاداته لهما..فكان خطابه سياسيا أمنيا مباشرا غير قادر على النفاذ ألى عمق المجتمع والإنسان..
لا سيما وأن الحالة الوجدانية للإنسان العربي كانت مرموقة الى اواسط السبعينات لأسباب موضوعية كثيرة ثم بدأت بالتراجع وراحت تبحث عن بدائل ولو معنوية تحاكي عواطفها حيث برعت السلطة الجديدة في ذلك..فكان ذلك التجاوب إلى حين..
٢ – التخريب المذهبي :
للاسباب التي ذكرناها آنفا لم يكن نظام الشاه قادرا على استغلال المسألة المذهبية ” الشيعية ” بالقدر الذي يمكنه من تحقيق اختراقات مهمة في طريق التحريض المذهبي الإنقسامي بين الشيعة والسنة العرب..وهم الغالبية الساحقة من مكونات المجتمع العربي..
وعلى الرغم من ذلك فقد كان نظام الشاه يعمل في استغلال المسألة المذهبية وكان أول من نحا في سلوك التحريض المذهبي للشيعة العرب في مواجهة انتمائهم القومي والوطني..وإن بقي تحريضاً مستتراً ومحدود الأثر..
أما نظام الملالي فقد إستخدم المسالة المذهبية الى مداها الأعظمي مستفيداً من شعائريته العاطفية الواعدة بالنصر على قوى الاستكبار العالمي..فبعد ان حقق ذلك الإختراق العاطفي باسم فلسطين وقضيتها التاريخية المتأصلة ؛ نفذ الى عمق المجتمعات العربية وراح يؤسس لعصبية مذهبية انقسامية وشعوبية في آن معا..والأخطر أنه نجح فيما لم يكن يستطيعه الشاه المخلوع أي تحوير التشيع المذهبي العربي وإعطائه المضمون الصفوي الفارسي الحاقد على العرب هوية وانتماء وتاريخا وحضارة فصار ظاهره تشيعا للحسين وآل البيت وباطنه عداء مستحكم مستفحل للعرب كبشر وأمة وحضارة ووجود…إلى أن إستطاع إنتزاع بعض الشيعة العرب من إنتمائهم الوطني والقومي ليلتحقوا بالتبعية لنظام الملالي وليصبحوا أداة له في مواجهة أبناء مجتمعهم ذاته.(( .لكن هذا لن يفلح ولن يستمر وها هي انتفاضة الشيعة العرب في العراق ضد إيران تثبت ذلك ))..
وقد صرفوا لذلك إمكانيات مالية وإعلامية وعسكرية ضخمة لتحقيق هذا الإختراق..فكانت موارد العراق الضخمة في تصرفهم يستخدمونها لبناء ميليشيات وشراء نفوي وإستغلال حاجة آلاف الشباب العاطل للعمل وكسب الحياة فضلا عن تعبئة مذهبية شديدة ومركزة ومستمرة..
وقد توافقت تطلعاتهم هذه الحاقدة على العرب والراغبة في الانتقام منهم ومن تاريخهم مع المشروع الغربي الصهيو – امريكي العامل على ذات الأهداف والساعي لتفتيت المجتمعات العربية وتقسيمها الى وحدات طائفية ومذهبية وعرقية إنفاذا للسيطرة التامة عليهم وعدم تمكينهم من النهوض وسحق إمكانية سعيهم للوحدة مجددا الامر الذي صار هدفا مشتركا لكلا الطرفين..
إن الحقد الشعوبي على العرب ورغبة الانتقام والعودة الى زمن الامبراطورية الفارسية يوم ان كانت بلادنا تحت إحتلالهم ؛ جعل نظام الملالي لا يخفي أهدافه هذه بل صرح كثيرون من قادته بذلك في عشرات المناسبات..الأمر الذي جعل منهم أشد خطرا من نظام الشاه السابق على الوجود العربي والقضية العربية التحررية..
الفارق ان الشاه كان يجاهر بعدائه للعرب وتحالفه مع اميركا والكيان الصهيوني..
أما نظام الملالي فيجاهر بعدائه للعرب ويخفي تعاونه مع المشروع الأميركي – الصهيوني..
أما إستمرار نظام الملالي في إحتلال الجزر العربية وفي اعتبار الخليج العربي برمته فارسيا فلا يشير الى أي تغيير عن نظام الشاه الامبراطوري حليف الغرب الاستعماري..
يبقى أن المؤشر الأكثر دلالة وحدة يتمثل في تعامل نظام الملالي مع شعب الأحواز العربي..فلم يكن إلا إستمرارا تاما لسياسة القمع والتنكيل والإضطهاد التي اتبعها نظام الشاه مع هذا الجزء الأبي الصامد المكافح من الشعب العربي ..وبالعكس فإن نظام الملالي يتعامل بحقد أكبر وإجرام أكثر عنفا ودموية مع شعب الأحواز العربية المحتلة منذ ١٩٢٤ بدعم بريطاني استعماري..
وقد تكشف الدور التخريبي لنظام الملالي في سنوات العقد المنصرم وتآمره البين الواضح مع الأهداف الصهيونية والغربية وسقطت كل إدعاءاته حول فلسطين والقدس التي اسس لها فيلقا عسكريا باسمها إنما ليدمر مدن وحواضر العرب التاريخية المستقرة ويهجر سكانها ليستبدلهم بآخرين مجلوبين من غير العرب ؛ في أخطر وأكبر عملية تغيير سكاني ديمغرافي شهدها التاريخ العربي..وهو الأمر الذي يتركز بخطر شديد في كل من سورية والعراق ودول الطوق المشرقية ..وقد بلغت الأمور حدا بات يشكل تهديدا ملحا لجميع البلاد العربية دون أستثناء والأطماع الفارسية في مقدسات العرب واماكنهم الدينية ليست خافية أو كاذبة..واذا لم يتحرك الوضع العربي الرسمي اولا والشعبي ثانيا لوأد هذا الخطر الجاثم الملح فلن تكون صورة المستقبل القريب مرضية أبدا..
وما يجعل الخطر الشعوبي أكثر الحاحا وفداحة ؛ رعاية قوى النفوذ الأجنبي جميعا له وتمكينه والسكوت عنه وتسهيل مروره ونفوذيته لتوافقه مع مشروعهم المعادي للوجود العربي..وذلك بأغطية مخادعة وإدعاء عداء كاذب تمررها مفاوضات لا تنتهي حول السلاح النووي.
المصدر: كل العرب