وصل الجميع في لبنان إلى الساحة المقفلة. إنها ساحة النزال في المجالات السياسية والقضائية، بامتدادات خارجية. وقد يطول المكوث في هذه الساحة، التي يحتاج المتصارعون فيها إلى تدخل خارجي لحسم الموقف أو تحديد وجهته، أو إيجاد تسوية لا يُعرف بعدُ أتكون متوازنة أم تكسر التوازن باعتراف دولي.
هناك عوامل كثيرة للتحكم بقرارات اللاعبين اللبنانيين. والقرار الخارجي يمنع إراقة الدماء، برسائل هددت بأن أي أعمال عنف ستؤدي إلى تغيير قواعد اللعبة، أو إلى تكرار الموقف الدولي على نحو مماثل لحقبة العامين 2004 و2005. لكن انتظار المفاوضات النووية في فيينا طويل لمعرفة مدى تأثيره على الداخل اللبناني. ووحده حزب الله قادر على الصبر. لكن الآخرين غير جاهزين، وهم يرتبون أمورهم لأشهر قليلة فاصلة عن الانتخابات النيابية والرئاسية، ولا يمكنهم الانتظار أكثر.
خلاف عون وحزب الله
والمقصود هنا رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي لم يعد خفياً غضبه وانزعاجه من حزب الله، الذي يغضب بصمت من ما يعتبره موقف عون: منحه الغطاء للقاضي طارق البيطار. وهذا أكبر تعارض بين الطرفين في السياسة الداخلية اللبنانية.
ويجد عون أنه مكبل بحسابات حزب الله وتحالفاته في الداخل والخارج. ومكبل أيضاً في علاقاته الدولية والعربية، فيما يتلقى الرسائل السلبية من كل حدب وصوب، ولا يبدو قادراً على تغيير المسار، وخصوصاً بعد الأزمة مع دول الخليج. لكنه لن يقف مكتوف الأيدي.
..وخياره الدمشقي
وأمام عون مجموعة أفكار: الاستثمار في الموقف القضائي لتحسين موقعه مسيحياً. ودفع حزب الله لاتخاذ موقف واضح حول مستقبل جبران باسيل السياسي. هذا هو مدخله الوحيد لفتح باب المساومة الداخلية. وهو يبحث السبل التي تعيد إحياء علاقاته بالخارج أو تفتح له أبوابها. لا يريد أن يبتعد كثيراً عن الممانعة. ولكنه يفضل اعتماد السلوك السوري. أي الانفتاح الذي يسعى إليه بشار الأسد على دول عربية، وخليجية بالتحديد، ولو سلكت سلوك التطبيع.
ولذلك، يبدو عون مهتماً كثيراً بتحسين العلاقات مع دمشق، التي يريد أن يذهب إليها سياسياً، ولا يكتفي باعتماد مستشاره بيار رفول منسقاً لعلاقته بها. بل يريد إضافة عناصر جديدة إليها، أبرزها تعيين سفير جديد في دمشق، قد يكون أحد مستشاريه ومقرب من باسيل. وتقول المعلومات إن الشخصية المعنية هي أنطوان قسطنطين. وكانت هناك زيارة تنسيق مع دمشق قام بها قبل مدة رئيس جهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا.
هذا المسار الذي يريد عون أن يسلكه، يتزامن مع اهتمامه الكبير في ملف ترسيم الحدود، وإطلاقه رسائل بأنه يريد إنجاز هذا الملف سريعاً، ولا أحد قادر على إنجازه سواه. وهذه العناصر كلها تشكل عناوين جديدة للمرحلة السياسية المقبلة، ليبلغ فيها التوتر أقصى مداه لبنانياً.
شرعيات شعبية وحكومة للسخرية
وبمعزل عن هذه الحسابات السياسية وخلافاتها، هناك من يريد أن يفرز البلد وفق شرعيات جديدة مختلفة. والشرعية الرسمية تتجلى بالجيش والقضاء، في مواجهة قوى سياسية تتمتع بشرعيات شعبية تسمح لها بمواجهة الشرعيات الرسمية.
أما الحكومة فأصبح وجودها على النحو المعروف مدعاة للسخرية والهزء: وزراء يتصرفون وكأنما الأوضاع عادية جداً، فيما يرفض الجيش والقضاء أي مساومة سياسية عليهما وعلى مراكز قرارهما. وهذا يقود بوضوح إلى الانتقال من الانهيار المالي والاقتصادي، إلى انهيار شامل إداري والمؤسساتي، لا ينتج غير الفوضى. والسبل الداخلية للمعالجات أصبحت مسدودة. ولا بد من الرهان الخارج لإحداث تغيير في هذه الوقائع.
وكان تشكيل حكومة نجيب ميقاتي آخر محاولة لملمة الأوضاع اللبنانية، انطلاقاً من مقومات داخلية. وحالياً كل الأدوات الداخلية أصبحت مفقودة. ولا بد من انتظار أدوات خارجية، لا يمكن توافرها بلا ظروف إقليمية ملائمة.
وحده العنف قد يوفرها، طالما الحرب الباردة لا تؤدي إلى مسارعة التدخل. لذا لا بد من تسليط العيون على رئيس الجمهورية، وحركته في المرحلة المقبلة. وتحديداً بين الفترة الحالية وبداية السنة الجديدة. فإما أن يحصل من حزب الله على ما يريد، وإما يكون الطرفان في بداية اختلاف وافتراق.
المصدر: المدن