لقد نجح السوريون في إطلاق ثورتهم في آذار 2011 ، وأعني بالنجاح تحطيم جدران الخوف التي راكمتها عقود طويلة من التوحّش والعنف الذي مارسته السلطة الأسدية بحق السوريين، إلّا أنهم لم ينجحوا في توفير الحصانة اللازمة لتلك الثورة، لأسباب بات لا يجهلها الكثيرون، مما جعل أسوار ثورتهم شديدة الهشاشة أمام المشاريع المضادة، سواء منها المنبثقة محلّياً، أو الوافدة من الخارج، وأمام تشظّي المشروع الوطني للثورة، وعدم قدرته على أن يكون النواة الصلبة الجامعة لمختلف الحراك الثوري في البلاد، باتت المشاريع الوافدة هي الأكثر دفعاً ومزاحمةً، لكي تفرض نفسها كمشاريع او مشروع بديل عن مشروع الثورة، وما عزز هذا الدفع والمزاحمة هو تقاطع مصالح بعض الأطراف الدولية مع المشروع البديل، أو الموازي السلبي لثورة السوريين.
تؤكّد الوقائع الميدانية لبدايات انطلاقة الثورة في سورية أن حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd ) الجناح السوري لحزب العمال الكوردستاني (bkk ) كان أحد القوى السياسية التي اتخذت موقفاً مناوئاً للثورة، وتجلّى موقفه المناوىء هذا بدءاً من ردعه للمتظاهرين ومنعهم من التظاهر في كل من عين العرب – كوباني – والقامشلي والحسكة وعفرين وبقية المناطق التي يتواجد فيها، وصولاً إلى إبرام تفاهمات ميدانية مع قوات الأسد، أفضت إلى أن يكون الحزب المذكور وكيلاً لقوات النظام في المناطق التي تخلّت أو انسحبت منها. ربما لا يجد المرء أية غرابة في سلوك حزب الاتحاد الديمقراطي آنذاك، ذلك أن طبيعة العلاقة التاريخية بين الطرفين، السلطة الأسدية وحزب العمال الكردستاني، توجب على الثاني أن يردّ الجميل لمن آواه وأتاح له التدريب وقيام المعسكرات ووفّر له كل ما يحتاجه – لوجستياً وعسكرياً – للاستمرار في نشاطه، إلّا أن هذا الوفاء لم يصمد أمام صفقات أكثر إغراءً ومغامرةً بآن معاً، وأعني بذلك بداية التنسيق والتحالف بين الولايات المتحدة الأميركية والفرع السوري لحزب أوجلان، حيث أشرفت واشنطن على تشكيل قوات سورية الديمقراطية في تشرين اول/ أكتوبر من العام 2015، بهدف محاربة تنظيم داعش، تلك الحرب التي أتاحت أمام الفرع السوري للحزب التركي أن يسيطر على مساحات واسعة من الجغرافية السورية، بل المساحات الأكثر حيازةً للغلة الاقتصادية، شرق سورية، حيث النفظ والقمح والقطن، وقد أتاحت هذه السيطرة لقسد أن تعتقد أنها باتت رقماً صعباً في المشهد السوري، بل هي بيضة القبان كما يقال، إلى درجة جعلت القيادة السياسية لقسد تنادي بتعميم مشروعها العابر على جميع الجغرافية السورية، بل وتدّعي أنه هو السبيل الذي يؤدي إلى الإنتقال من طور الإستبداد الأسدي إلى دولة القانون والديمقراطية، ولعل الحافز الأساسي لهذا التجرؤ بالإدّعاء هو حيازة القوة التي وفرتها أو أتاحتها المظلة الأميركية، إلّا أن تلك المظلة الداعمة لم تحافظ على ثباتها واستمراريتها، فهي قابلة للزوال والإنزياح وفقاً لمصالح وسياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة على البيت الأبيض. ربما لم يخطر ببال قادة حزب الإتحاد الديمقراطي أن قوات قسد ( الذراع العسكرية الوظيفية لواشنطن في شرق سورية) ستتحول في يوم ما إلى عبء على واشنطن يوجب التفكير بطريقة ما، للتنصل منه، وربما تحت ضغط هذه الانعطافات الموجعة بالنسبة إلى قسد، لا بدّ أن تترافق بانعطافات أخرى في التفكير، إذ سرعان ما يتحوّل المشروع الطامح للتعميم، إلى مجرّد الحرص على البقاء والحفاظ على الذات، والبحث عن مظلّة واقية بديلة.
العلاقة الحميمية الدافئة بين قسد وواشنطن طيلة ست سنوات مضت، لم تتجاوز الأطر المصلحية الآنية، أي أنها بقيت ضمن الحيّز العسكري ولم تتحوّل إلى أفق سياسي استراتيجي بعيد، مما يجعل الشعور باليتم حافزاً محرّكا لقسد للبحث عن تحالف جديد لعله يقيها لحظة الإفتراس التي تخشى أن تباغتها من جانب الدولة التركية، ومن هنا تبدأ خيارات قسد بالإنحسار، بل يبدو سلوك قادتها مُفرَغاً من كل حمولته الدعائية السابقة، ويصبح مسكوناً بهاجس الخوف، والحرص على البقاء، ولعل المتتبع لمواقف قسد الإعلامية من نظام دمشق على مدى ست سنوات مضت، وكذلك المتابع للجولات التفاوضية بينهما منذ العام 2018 ، في دمشق أو مطار القامشلي أو قاعدة حميميم، يجد أن قسد تواظب بانتظام على تكرار موقفين اثنين لا جسور بينهما، فتارةً يكون نظام الأسد إستبداديًا ديكتاتورياً شيفونياً، لا يحظى بأي شرعية، ولا سبيل إلّا لترويضه، ليحيا على أنقاضه مشروع ( الأمة الديمقراطية وأخوّة الشعوب)، وتارة أخرى يغدو نظام الأسد ذاته هو الحاكم الشرعي للبلاد، وأن دفء العلاقة التاريخية بينه وبين حزب العمال الكردستاني كفيل بأن يفضي إلى شراكة حقيقية من خلال حوار بين الطرفين، وفقاً لألدار خليل، وهكذا يصبح أصل المشكلة ومبعثها الحقيقي هو نفسه من يُمسك بمفاتيح حلولها، ويشرف على هندستها.
ربما بدا النظام الأسدي طيلة تعاطيه مع قسد أكثر وضوحاً وانسجاماً مع وحشيته وتسلّطه، إذ هو لم يغيّر أو يبدّل في نعوته وتوصيفاته لهم، فقسد على الدوام – بغض النظر عن التفاهمات الميدانية غير المُعلنة – قوة إنفصالية تسعى لتقسيم البلاد، فضلاً عن كونها عميلة للأميركان، وفقاً لتوصيف النظام، وهو كذلك لم يتوان عن تحطيم سقوفها التفاوضية حين يجدد مطلبه في كل لقاء بين ضباطه وممثلي قسد، بابتلاعها أو محوها أو تماهيها التام مع جيشه وسلطاته، وحين يجفل مفاوضو قسد من تكشير أنيابه، يأتي الروس ليمارسوا سياسة الترغيب والترهيب، تارة من خلال التحذير من هجوم تركي كاسح ووشيك على قسد، وتارة من خلال محاولة إقناعها بتسليم المدن والبلدات التي تسيطر عليها لقوات النظام مع الإحتفاظ ببعض النفوذ الذي يحافظ على بقائها، ضمن مسعى روسي لا يحتاج إلى الكثير من التأويل، وأعني تمكين النظام وحلفائه من السيطرة على منابع غلّة الاقتصاد السوري.
إنحسار قسد أمام المدّ الأسدي الروسي الإيراني لن تنحصر عواقبه على حزب الاتحاد الديمقراطي فحسب، بل يمكن لهذا الحزب أن يعود إلى مكامنه الأصلية في قنديل، محافظاً على مشاريعه الإيديولوجية كاملة غير منقوصة، ولكن تداعيات هذه العملية ستكون وخيمة على المواطنين السوريين، سكان تلك المناطق التي سيتقدم إليها النظام وحلفاؤه، وهل سيكون بمقدور أصحاب مشروع (الأمة الديمقراطية) حماية هؤلاء السكان من انتقام عصابات الأسد وإجرامها وتوحّشها وتعفيشها؟ أم سيجدون مستقبلهم بالتماهي مع المنظومة الأسدية ذاتها؟.
المصدر: إشراق