لم يذكر التاريخ أن حاكما ما استيقظ صباحا ودعا محكوميه ليشاركوه في السلطة. بل لا يتورع أصحاب السلطة عن فعل أي شيء من أجل الحفاظ عليها. لم تأتِ الديمقراطية – باعتبارها نظاما يمنح فرصة لمجموعة أكثر اتساعا من السكان للمشاركة في صياغة السياسات العامة للبلاد وإدارة الشؤون العامة – نتيجة تفكير مضنٍ لنخبة حاكمة تريد بناء نظام يمكّن محكوميها من المشاركة في السلطة، وإنما نشأت عن توزع ديناميات السلطة نتيجة حاجة لإعادة التوازن لعلاقات قائمة أو نشوء بؤر جديدة نتيجة علاقات طارئة في مجتمع ما.
إن السلطة هي قدرة شخص أو مجموعة من الأشخاص على الهيمنة على مجموعة من الأفراد نتيجة امتلاك أدوات ما تمنحهم تلك القدرة. عليه فإن قيام الدولة الديمقراطية أو الدولة ذات المشاركة الأكثر اتساعا في صياغة السياسات يعتمد بالدرجة الأولى على المساومات بين من يمتلكون أدوات تمكنهم من حيازة السلطة، وبذلك تبدأ مشاورات الالتزام المتبادل بين السلطة المركزية التي تحتكر العنف أو تمتلك قدرة أكبر من غيرها على إنفاذ العنف وبين السلطات الأخرى التي تمتلك أدواتها أيضاً.
لم يبدأ التحول الديمقراطي في فرنسا مثلا عشية ثورة ١٧٨٩، وإنما نتيجة أزمة اقتصادية خانقة أدت لفراغ في الخزينة مما دفع السلطة الملكية للدعوة لعقد مجلس الطبقات الذي مضى عليه أكثر من قرن ونصف دون أن ينعقد، وبدأت الثورة فعليا من النزاع المتشابك بين العائدات والحقوق والحكم الذاتي ومؤسسات التمثيل وغيرها. كان ما تحتاجه الدولة حينذاك من الملاك والأشراف وحتى العامة يدفعها لتقويض جزء من سلطتها عبر التنازل عن جزء منها لأصحاب الأدوات الأخرى في ممارسة سلطة ما. تكاد لا تنحرف قصة من قصص التحول الديمقراطي عن هذا السياق، سلطة مطلقة، ظروف طارئة تؤدي لفقدانها بعض أدواتها، حيازة جماعات أخرى لتلك الأدوات، تقويض السلطة المركزية من خلال منح امتيازات سلطوية لأصحاب الأدوات الجدد وهكذا..
لم تخرج ديكتاتوريات الأنظمة العربية عن غيرها من الديكتاتوريات في العالم التي ملكت زمام أمورها فعليا في القرن العشرين، وذلك من خلال قدرتها – باسم الدولة – على مصادرة كل الأدوات التي يمكن لها أن تبدد السلطة.
لا شك أن الاقتصاد يعتبر من أكثر الأدوات أهمية في التعويض أو التوازن مع السلطة السياسية، وعليه نشأت الديمقراطية في الفترة الأولى تاريخياً كنظام حكم يؤهل النخبة المالكة للمشاركة في صناعة السياسات العامة ”في الديمقراطية الأثينية كان التصويت يشمل فقط الملاك من مجموع السكان، لا النساء ولا العبيد ولا الغرباء“، وكذلك الأمر في بداية الديمقراطيات الحديثة ”التصويت في سويسرا مثلا بدأ فقط بالحق للملاك بالتصويت“.
أهدت الثورة البلشفية في مطلع القرن العشرين الديكتاتوريات وأنظمة الحكم الفاشية الناشئة حينذاك فكرة لامعة في الهيمنة على مختلف أدوات السلطة من خلال فكرة رأسمالية الدولة. تلك الفكرة التي منحت الدولة الحق في النهب العام والشامل والمتزامن لمجموع السكان تحت شعارات ثورية وإنسانية ووطنية مثل القضاء على الإقطاع ومحاربة الرجعية وإنهاء الاستغلال.
في سوريا بدأت عملية النهب المنظم من الدولة للمجتمع مع إعلان جمهورية الوحدة قانون الإصلاح الزراعي والبدء بتأميم الأراضي الزراعية. انتقل الأمر للحقل الصناعي، وامتد عبر قانون الجمعيات ١٩٥٨ لمصادرة حتى الفضاء العام المدني، ومن ثم منع تشكل الأحزاب. كل ذلك مهد لدولة البعث بعد انقلاب ١٩٦٣ لتتحدث عن عقائدية بعثية للجيش وتوظيف الإعلام والتعليم في خدمة أهداف الثورة، ومن ثم الاقتصاد، وإعلان الديمقراطية الشعبية مبدأ يجعل ”الحزب الثوري“ قائداً للدولة والمجتمع. ورغم أن القمع الرهيب والسيطرة المطلقة على الجيش والأمن وابتداع ميليشيات موازية للجيش مثل الحرس القومي ومن ثم الحرس الجمهوري وسرايا الدفاع وعشرات الفروع الأمنية لعبت دوراً كبيراً في التغول على الدولة، لكن الضرر الأكبر جاء من هدف البعث الثالث المتمثل بالاشتراكية التي فسرها البعثيون بما تقتضي مصالحهم.
أدت الاشتراكية إلى مصادرة السوق بالمطلق، وحيث لا سوق لا ديمقراطية.
بات النفط والغاز ومختلف الثروات الباطنية ملك الدولة. الصناعات الأساسية والكبرى والملكيات الزراعية الكبرى كلها ملك للدولة، الإعلام ووسائله ملك للدولة، وبالتالي أصبحت الدولة كل شيء، ومن ثم تربع على رأسها حزب البعث دستورياً، واختزل البعث نفسه بالقائد الضرورة حافظ الأسد كما أعلن مؤتمره الخامس لعام ١٩٧٣ لتصبح الدولة والسلطة والحزب كلا واحدا وهذا الكل الواحد اتخذ شكل شخص حافظ الأسد الذي كرس لفكرة من خلفه تتلخص في حكم العائلة، فكان الصراع على السلطة في الثمانينات بينه وبين أخيه، ثم حضّر بشكل واضح لابنه الأكبر باسل، وعند موته جاء ببشار الأسد. في صيف عام ٢٠٠٠ كان النقاش الأوضح حول السلطة بعد موت حافظ الأسد مبنيا على المفاضلة بين رفعت الأسد وبشار الأسد. هكذا ببساطة.
إن حصر الواردات الكبرى والمتوسطة بيد الدولة جعلت منها جهاز إدارة خدمي غير مسؤول، فلا تحتاج الدولة فعليا للشعب. لا مؤسسات مهنية ومدنية يمكنها أن تبني رأيا عاماً، ولا إعلام بعيد عن وساطة الدولة، ولا سوق حقيقي يمكن أن تؤثر ضرائبه في موازنة الدولة وقدرتها على توفير الخدمات، هذه الخدمات التي تتصدرها الخدمة الأمنية المعنية باستتباب الأمن بما يتناسب في الأولوية مع السلطة. إن استغناء الدولة عن الشعب أبطل بالضرورة فعالية مشاورات الالتزام المتبادل بين الدولة والمواطنين، مما جعل موظفي الدولة جهازا بيروقراطيا متسلطا يشعر بقوته وهيمنته، وعدم حاجته لمجموع المواطنين، وعليه قام مفهوم الاستجابة للطلبات والمراجعات والشكاوي على ما يناسب السلطة وجناحيها الأمني والبيروقراطي. الفساد بذلك يصبح مشرعنا حيث لا حساب عليه ولا ضرر منه على الدولة-السلطة. رغم توافر سوريا ما قبل ٢٠١١ وما بعده على نظام ضريبي، إلا أنه لم يكن فاعلاً وينخره الفساد. على أن الفساد ليس سبباً لعدم فاعلية هذا النظام، وإنما عدم حاجة الدولة له لتأمين وارداتها الرئيسية هو السبب، حيث لا بأس بالفساد الذي يولد ثروة لعناصر الدولة ولا يؤثر على قدرتها الخدمية رغم سوئها. عندما تمت عملية لبرلة الاستبداد مع مجيء بشار الأسد تيمناً بالتجربة المصرية لم يخرج السوق عن الدولة، بل تمت السيطرة عليه عبر الدولة غير الرسمية المتشكلة من العلاقات العائلية والزبانية لعائلة الأسد بداية بعائلة مخلوف الأقرب للأسد وليس انتهاء بعائلات مثل عائلة منصور في حلب والشلاح في دمشق.
يأتي صمود الأسد عشر سنوات رغم انهيار الاقتصاد وتسرب الرساميل والموظفين بناء على هذا الاستغناء، فالدولة تملك كل شيء، ويمكنها بيع كل شيء، وقد باع الأسد الدولة دون أي حاجة لغطاء دستوري أو قانوني، لأن الاشتراكية منذ زمن بعيد كانت أمنت له صك الملكية.
مكنت الاشتراكية التي تتغنى برأسمالية الدولة النظام السوري من الاستغناء عن الشعب، وبالتالي عدم تقديم أي تنازل مهما كان صغيراً، لأن النظام من أعلى لا يرى في المواطنين إلا شعباً لدولة بناها، ولم يخطر بباله يوماً أنها دولة الشعب.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا