دبلوماسية خطوط الأنابيب…الغاز ورقة مساومة جيواستراتيجية في أزمة الطاقة

أحمد أبو دوح

الغاز سلاح دبلوماسي في المواجهة الروسية مع أوروبا وفي شرق البحر الأبيض المتوسط وأزمة الطاقة الخانقة في لبنان .

يشترك الناس الذين يعيشون في بيروت، أو باريس، أو لندن في مشاعر الخوف نفسها من الشتاء البارد المقبل، لا سيما أن الغاز الذي ينشر الدفء ويضيء المصابيح في بيوتهم، هو إما غير متوفر أو باهظ الثمن.

ويشرح العديد من السائقين أسباب أزمة الطاقة. وقد يعود أحدها إلى ارتفاع الطلب مقابل انخفاض العرض، وذلك نتيجة حصول التعافي الاقتصادي من تداعيات “كوفيد-19” في وقت أقرب مما كان متوقعاً. ويعتبر توجه الصين الجديد المدعوم من قبل الحكومة لمكافحة التغير المناخي سبب آخر. وهناك بالطبع الفساد السياسي وعدم الكفاءة على امتداد عقود طويلة، كما تظهر كارثة لبنان.

ثمة شيء واحد يضعه الأوروبيون واللبنانيون نصب أعينهم على أمل العثور على مخرج، وهو دبلوماسية خطوط الأنابيب. ويقول محللون، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرى نافذة فرصة سانحة لاستغلال التباين بين العرض والطلب وعدم القدرة على التنبؤ الجيوسياسي الناجم عن وضع كهذا.

لقد حددت الأزمة من الناحية العملية، كيفية نشر [إشهار] الغاز الطبيعي كسلاح جيوسياسي. ولكنه سلاح يتصف بخصوصية فريدة [غريبة]، فهو غير فعال، ورديء، وخطر كما يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية.

ورأى البروفيسور أندرياس غولدثاو، وهو أستاذ كرسي فرانز هانيل للسياسات العامة في جامعة إرفورت، أن “الغاز يعمل كسلاح جيوسياسي فقط في علاقة تجارية غير متكافئة للغاية، تكون فيها اليد الطولى بوضوح لأحد الجانبين. ويمكن القول، إن الحال لم تكن هكذا على الإطلاق في علاقات الغاز الأوروبية – الروسية. وأوروبا هي عميل رئيس [زبون رئيسي]، وليس لدى روسيا العديد من الخيارات كي تصدر إلى أمكنة أخرى”.

وفي حين أن شرارة عاصفة الطاقة لم تشتعل في الأصل بفعل عقبات جيواستراتيجية، فإن حلاً دبلوماسياً مؤقتاً ربما يوفر ملاذاً لاتقاء العواقب الوخيمة لهذه العاصفة.

وكانت شركة الغاز الروسية العملاقة “غازبروم” قد أوقفت كل إمداداتها إلى أوروبا خلال نزاع التسعير في عام 2009 مع أوكرانيا، ما ألحق الضرر بالدول الجنوبية الشرقية في القارة وبأجزاء أخرى من الاتحاد الأوروبي. وفي أعقاب أزمة 2014 التي اندلعت بسبب ضم شبه جزيرة القرم، أغلقت روسيا مرة أخرى صنابير الغاز متهمة أوكرانيا بالتقاعس عن تسديد ديونها لشركة “غازبروم”.

وأوضح البروفيسور غولدثاو أن “لروسيا تاريخاً [باع طويل] لجهة استخدام إمدادات الغاز والتسعير كأداة لشراء الأصدقاء ولعب لعبة فرق تسد مع الزبائن كل على حدة من دول الاتحاد الأوروبي. وباعتبار أن هناك نظاماً صارماً لسياسة أوروبية مشتركة للطاقة موضع التنفيذ حالياً، فإن ذلك بات في منتهى الصعوبة”.

ومن جانبها، ذكرت ماريا باستوخوفا، وهي كبيرة مستشاري السياسات في مركز “أي 3 جي” البحثي المستقل المعني بالتغير المناخي، أنه “إذا كانت روسيا تستخدم صادرات الغاز سلاحاً سياسياً، فهو ليس سلاحاً فعالاً”.

وفي عام 2007، اقترح الاتحاد الأوروبي الحزمة الثالثة لإصلاح الطاقة، والتي سعت إلى تحسين أداء سوق الطاقة الداخلي في الاتحاد الأوروبي. واستهدفت هذه السياسة التكامل في سوق الطاقة في الاتحاد الأوروبي وذلك لتعزيز المنافسة، علماً أنها دخلت حيز التنفيذ في 2009 أي في العام نفسه الذي جعلت فيه موسكو آليات عمل الطاقة لديها أكثر صرامة.

ومنذ ذلك الوقت، أدت التوترات بشأن الغاز الروسي إلى تهميش أي حديث عن ذوبان الجليد بين الجانبين.

وأضافت باستوخوفا “تفاقم الاغتراب والتوتر [المسافة والتنائي] بين روسيا والاتحاد الأوروبي، مع اتخاذ الأخير إجراءات إضافية لتشديد نظم سوق الغاز، واعتماد رؤية الصفقة الخضراء التي من شأنها أن تخفض بشكل فعال واردات الغاز بنسبة 40 في المئة على مدى السنوات العشر المقبلة وما يزيد على 90 في المئة مع حلول عام 2050”.

غير أن ذلك سيتطلب بعض الوقت ليحقق نتائج فعلية. ولا تزال أوروبا تستورد حالياً 90 في المئة من الغاز الذي تستهلكه، علماً أن روسيا تمدها بنحو 40 في المئة من وارداتها الإجمالية.

في غضون ذلك، يُستخدم الغاز لتدفئة 80 في المئة من المنازل في المملكة المتحدة، حيث انهار عدد من شركات الطاقة جراء الارتفاع المفاجئ في الأسعار. وطبقاً لما ذكرته وكالة أنباء “رويترز”، فإن القدرة التخزينية في المملكة المتحدة تعادل حالياً حجم الطلب على الغاز في نحو 4 إلى 5 أيام خلال فصل الشتاء، وذلك بعدما كانت سابقاً 15 يوماً.

وأعلن بوتين أن موسكو كانت مستعدة لرفع إمداداتها إلى أوروبا والتعويض عن آثار الأزمة. إلا أن قرار شركة “غازبروم” ضخ الغاز لتخزينه ضمن احتياطيات روسيا الوطنية، ربما يكون قد أظهر [استعرض] جانباً من الألعاب [التلاعب النفسي] النفسية الفريدة التي يلعبها بوتين مع الزعماء الأوروبيين.

واعتبرت كاتيا يافيمافا، الزميلة الباحثة الرفيعة المستوى في معهد أكسفورد لدراسات الطاقة أنه “في الوقت الذي أعلنت فيه غازبروم مراراً وتكراراً، وذلك في مايو (أيار) ومارس (آذار) عام 2021، أنها كانت بصدد تصدير 183 مليار متر مكعب من الغاز إلى أوروبا في 2021 وكانت ملتزمة توقعاتها هذه، يبدو أن أوروبا توقعت المزيد من روسيا، وقد فوجئت بقرار غازبروم أن تعطي الأولوية لملء خزاناتها الاحتياطية في روسيا على [عوض] إمداد أوروبا بالكميات الإضافية من الغاز”.

إلا أن النقاد يتهمون الكرملين بإبقاء الإمدادات في مستويات منخفضة بشكل مصطنع، وذلك لرفع أسعار الغاز ولممارسة ضغوط على المسؤولين الألمان والأوروبيين لتسيير عمل [تحريك عجلته] خط أنبيب نورد ستريم 2 المثيرة للجدل.

وقد أدلى مسؤولون روس بتصريحات علنية، جاء فيها أن “الاستكمال المبكر للترخيص” لنورد ستريم 2 من شأنه أن يساعد على “تهدئة الوضع الحالي”.

وقالت باستوخوفا لـ”اندبندنت”، إن “الرسائل التي توجهها روسيا بما يتعلق بخط أنابيب نورد ستريم 2 محاولة تفتقر إلى الحكمة لاستخدام ارتفاع أسعار الغاز لصالح شركة غازبروم والكرملين”.

وأضافت “أنها لن تغير الموقف العام للاتحاد الأوروبي حيال روسيا (وإذا فعلت فسيكون التغيير نحو الأسوأ) كما أنها لن تساعد في الحفاظ على صورة غازبروم كمورد يستحق الثقة”.

ويقول خبراء، إن لدى أوروبا بديلاً آخر [عن الغاز الروسي]، غير الغاز القطري الطبيعي السائل، وهو مكامن الغاز الهائلة التي تم اكتشافها، أخيراً، في شرق المتوسط. لكن على الرغم من قربها من القارة المحاصرة، فمنطقة شرق المتوسط تمزقها الصراعات، والمنافسة والخلافات التاريخية، إذ تضم دولاً مثل مصر وإسرائيل ولبنان وتركيا.

وخلقت المنافسة الجيوستراتيجية في العقد الماضي على اكتشافات الغاز نظاماً إقليمياً شُيد على أساس الردود المتبادلة [من قبيل العين بالعين والسن بالسن[ حيث إحباط مصر من نشاطات تركيا المثيرة [عرقلتها] في ليبيا أدى إلى إبرامها [القاهرة] تحالفات للحيلولة دون تنقيب أنقرة عن الغاز في البحر الأبيض المتوسط.

وهناك عقبات أخرى تعترض ]إمكانية التعويل على غاز شرق المتوسط[ كحل قابل للتطبيق يريح أوروبا من اعتمادها المفرط على روسيا، وهي تكلفة الاتصال والترابط الباهظ، والمخاطر التقنية، والطلب المحلي المرتفع.

ولفت غولدثاو إلى أن “إمدادات الغاز من شرق البحر المتوسط ستخدم بشكل أساسي الأسواق المحلية في إسرائيل ومصر والمنطقة الأوسع. وإضافة إلى ذلك، فإن لتركيا مصلحة في اللعبة ومن المرجح أن تعرقل عمليات تطوير سريعة لحقول الغاز في الأراضي القبرصية”.

إلا أن إمدادات غاز شرق المتوسط المتنازع عليها يمكن أن تكون شريان حياة بالنسبة للبنان، حيث أدت أزمة الطاقة إلى انقطاعات شاملة في التيار الكهرباء وسط أزمة اقتصادية خانقة.

وقد جمعت أزمة الطاقة اللبنانية الخصوم القديمين معاً على نحو يمكنه أن يؤدي إلى خلق ديناميكيات إقليمية جديدة.

وقد أعلن مسؤولون في المنطقة هذا الشهر أنهم قد وضعوا اللمسات الأخيرة على خطة يمكن أن توفر الأمل لملايين المواطنين اللبنانيين ممن تكويهم الأزمة بنارها.

وتنص الخطة، التي تحظى بدعم الولايات المتحدة، على تزويد مصر محطات توليد الطاقة الكهربائية اللبنانية بالغاز عن طريق خط أنابيب يمر عبر الأردن وسوريا. وسيصدر الأردن أيضاً الكهرباء، التي يجري توليدها بصورة أساسية من الغاز المستورد من إسرائيل.

لكن مشكلة لبنان تكمن في استخدامه محطات كهرباء قديمة تعمل على الديزل، ما يسلط الضوء على حاجته الملحة للوقود الأحفوري أكثر من الغاز الطبيعي.

وقال جيم كرين، محلل الطاقة في معهد بيكر بجامعة رايس، لـ”اندبندنت” إن “أحداً لا يستطيع معرفة ما إذا كان لبنان سيتخلى عن توليد الطاقة بالديزل وينتقل إلى نظام أكثر حداثة. سيكون الغاز عبارة عن تحسن كبير لأنه أنظف وأرخص بكثير”.

وقد رست ناقلتا نفط إيرانيتان في ميناء بانياس السوري منذ سبتمبر (أيلول). وتم نقل المحروقات بواسطة صهاريج عبر الحدود مع لبنان، في خطوة صورها “حزب الله” المدعوم من إيران على أنها كانت انتصاراً كبيراً ضد العقوبات الأميركية المفروضة على صادرات النفط الإيرانية.

وتعول الولايات المتحدة على الخطة الجديدة لنسف الهيمنة الإيرانية في كل من لبنان وسوريا وطرح حل يقره حلفاؤها العرب.

بيد أن الترتيبات المثيرة للجدل قد تفضي إلى إضاءة غاز إسرائيل وطاقتها الكهربائية مقر قيادة “حزب الله” عدوها اللدود، وتزويد بشار الأسد ديكتاتور سوريا الدموي بمخرج له من عزلته الدولية.

مع ذلك، فإن استخدام إمدادات الغاز لتفكيك عقود من النفوذ الإيراني في المنطقة قد يثبت أن خطة إدارة بايدن واهمة.

واعتبر ستيفن رايت، وهو بروفيسور مشارك في جامعة حمد بن خليفة في قطر “لن تضعف قبضة إيران وحزب الله بسبب الغاز، فهي أكثر رسوخاً وتعقيداً ولن تتراخى في أي وقت قريب”.

وعلى الرغم من موافقته السريعة المزعومة على الخطة، فإن طموحات الأسد بإعادة تأهيله من خلال إعطائه دوراً كبيراً في حل أزمة لبنان، يمكن أن تتعثر قريباً.

ولفت رايت إلى أن “هذه الخطة لن تكون كافية لتشفع للأسد في عيون المجتمع الدولي. فعلى أي حال، كانت سوريا اللاعب الرئيس في زعزعة الاستقرار في لبنان في المقام الأول من خلال “حزب الله،” وهو بمثابة وكيل لسوريا وإيران. سنرى في أحسن الأحوال تعاملاً براغماتياً مع سوريا، أما تبرئتها فليست مطروحة على الإطلاق”.

© The Independent

 

المصدر: اندبندنت عربية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى