السودان … المشهد على حقيقته

 د. مخلص الصيادي

حينما أطاح الحراك الشعبي في السودان الذي “يمثله ائتلاف قوى الحرية والتغيير” بحكم الرئيس عمر حسن البشير في ابريل 2019، وأمكن عقد اتفاق بين ممثلي الجيش الذي رفض توجه البشير في التصدي بالقوة للحراك الشعبي، وبين ممثلي هذا الائتلاف  لاجتياز مرحلة انتقالية من ثلاث سنوات، يتقاسم فيها الطرفان السلطة من خلال مجلس رئاسي يتناوبان على رئاسته، وحكومة مشتركة، ومن خلال وثيقة دستورية تضبط هذه المرحلة، حين تم ذلك كان السودان يرسم ملامح تجربة جديدة تتحرك فيها قوى الأمة مدنية وعسكرية لإخراج هذا البلد من سراديب الحكم المستبد الذي دخله  مع وصول البشير إلى السلطة واستبداده فيها،  إلى رحاب حكم مدني شعبي مستقر تكون فيه السيادة للشعب. وتنتهي من خلاله مرحلة الاضطراب والتداخل التي وسمت الحياة السياسية السودانية في مرحلة الانقلابات العسكرية. منذ انقلاب إبراهيم عبود في 21 / 10 / 1964.

والحق أن التجربة كانت فريدة، وكانت تعطي أملا أن في مقدور القوى الشعبية ان تحدث تغييرا، وفي مقدور قوى الأمة عسكرية ومدنية أن تتفق على مسيرة بناءة يستعيد فيها الشعب زمام أمره.

وعلى مدى أكثر من عام مضى ظهر أن “القوى العسكرية والمدنية” التي تصدرت المشهد كانت ملتقية على خيار واحد في سياساتها الخارجية والداخلية، وأنها كانت من حيث المآل تضع السودان ـ الذي مزقته سياسات البشير وأضعفت مناعته الداخلية ـ في السلة الأمريكية مستهدفة رفع العقوبات المفروضة عليه، وأنها على استعداد لدفع ثمن ذلك، وقد ظهر ذلك بأوضح الصور على جانب العلاقة مع الكيان الصهيوني، مما شكل مفاجأة لم يكن الكثيرون يتوقعونها، وبدا أن ما أحجم عنه نظام البشير البائد، أقدم عليه النظام الجديد.

وهذا التوافق بين الحكام الجدد مدنيين وعسكريين ممثلا برئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك أشاع انطباعا بأن طرفي السلطة الجديدة على وئام، أو أن التباين بينهما لا يعدو أن يكون تباينا محدودا وطبيعيا.

لكن ما حدث كان خلاف ذلك، لقد تحرك العسكريون في 25 أكتوبر الماضي ليسقطوا الجناح المدني، وبالتالي لينهوا مفهوم تقاسم السلطة في المرحلة الانتقالية وصولاً الى إعادتها في نهاية هذه المرحلة للشعب.

من هذه الزاوية بالتحديد يصبح الحديث عن خلاف بين الفريقين هو حديث عن خلاف بين نهجين في ممارسة السلطة، حديث جوهره تحديد مصدر المشروعية لهذه السلطة، هل المصدر والمرجعية في الوثيقة الدستورية أم في القابض على مجلس السيادة، أي هل المشروعية ترتبط بإرادة الأفراد أم بإرادة المبادئ والوثائق.

واتضح أن الإجراءات التي اتخذها الفريق البرهان ومن معه تريد أن تخضع الجميع لإرادة هذه القوة الحاكمة، لذلك اتخذت هذه القوة قراراتها بتعليق مجلس السيادة، وبتعليق ما رأت ضرورة تعليقه من الوثيقة الدستورية، وبإعلان حالة الطوارئ، ثم توالت الإجراءات التي تمكن العسكريين من الحكم أكثر فأكثر، ولقد جاءت هذه القرارات فيما كان الوقت يمضي باتجاه أن يسلم البرهان رئاسة مجلس السيادة الى الجانب المدني. أي أن هذه الإجراءات أتت لتقطع الطريق على مثل هذا التحول.

القضية هنا لا تتصل بشخص رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، ولا بالوزراء أنفسهم بعضهم أوكلهم، إذ يمكن للرهان ان يعيد تكليف حمدوك بتشكيل الحكومة، أو أن يكلف مدني آخر بتشكيلها، ليست القضية هنا شخصية، وإنما قضية تتصل بالجوهر، بمصدر المشروعية، هل المصدر إرادة السودانيين التي تجسدت في الوثيقة الدستورية وخارطة الطريق الخاصة باقتسام وتبادل السلطة، أم المصدر قوة الجيش التي تقع تحت يد البرهان وشيعته.

على خلاف تاريخ السودان ودوره المشهود له في الالتزام بقضايا أمته القومية وفي المقدمة منها قضية فلسطين، دفع النظام السوداني الجديد ثمنا باهظا لقاء قبوله أمريكيا ولقاء رفع العقوبات عنه حين ذهب إلى درجة التطبيع مع العدو الصهيوني، وحين نقول “النظام السوداني” فهذا يعني طرفي السلطة في السودان المدني والعسكري.

ولا شك فإن البرهان لا يمكن أن يقدم على ما أقدم عليه إلا إذا توفر له ما يطمئنه إلى تقبل البيئة الدولية والإقليمية لما قام به.

مؤشرات عديدة ترجح أن العديد من الدول الإقليمية كانت تتطلع لمثل هذا التغيير في السلطة السودانية، حتى لا تقوم قائمة لفكرة أن الشعب يستطيع أن يفرض إرادته على الجميع بما في ذلك الجيش وأن ينصاع الجميع له، وهذا في حقيقته “جوهر الديموقراطية”، وهذا هو بالتحديد ما يخيف ليس فقط البيئة الإقليمية وإنما أيضا النظام الدولي، وفي المقدمة منه الولايات المتحدة الأمريكية.

مهم جدا لواشنطن وللنظام الإقليمي العربي أن يكون النظام القائم ” أي نظام قائم”، حليفا للولايات المتحدة، ومهم جدا أن يكون هذا النظام ” أي نظام” منفتحا على العدو الصهيوني ومطبعا معه، فهذه كلها مكاسب في هذا الزمن العربي الرديء، لكن الأهم من ذلك ألا يكون هذا النظام خاضعا للإرادة الشعبية، لأنه حين يكون كذلك فإن كل مكسب أو موقف أو إجراء لا يتسق مع طبائع الأمور، ولا مع ضمير هذا الشعب ومخزونه الحضاري والثقافي والديني، سينهار حتما في لحظة من اللحظات، وحين ذاك ستذهب تلك المكاسب التي اقتنصت في لحظة ضعف أدراج الرياح.

وخطورة أن يحدث ذلك إقليميا ودوليا أيضا تكمن في أنه يقدم انموذجا لنجاح “ربيع عربي” عمل الجميع على إجهاضه.

الصراع الذي نراه في السودان، ليس على السياسات أو المواقف، ولا على الأشخاص والمناصب، ولا على المدى والمراحل، وإنما على المشروعية ومصدر الشرعية، على المرجعية.

جميع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة تدرك هذه الحقيقة، وجميعها يرى المصلحة في منع استحواذ القوى الشعبية على القرار الوطني، ومنع أن تصبح هي مرجعه الأساسي، ومصدر شرعيته.

النجاح والفشل في مآلات ما يحدث في السودان يظهر في هذا الجانب تحديداً، وما دون ذلك فلا معنى لشيء.

ونحن حين نقول ما نقول لا ننتصر لحمدوك على البرهان، ولا للبرهان على حمدوك، وإنما ننتصر للشعب السوداني، ننتصر لتمكن الإرادة الشعبية الوطنية من السلطة والثروة، من حاضر السودان ومستقبله.

1 / 11 / 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى