القرار السعودي بحق لبنان صادمٌ ، قاسٍ، عصيٌ على الفهم، لا يتناسب أبداً مع خطأ عابر، إرتكبه وزير لبناني ساذج في السياسة. وهو خطأ كان يمكن حصره في نطاقه الضيق، وفي زمنه الخاص، وطلب توضيحه وتصحيحه، من دون المس بالعلاقة بين البلدين والشعبين، ومن دون الافساح في المجال، لا للتزلف من جهة، ولا للتنمر من جهة أخرى.
القرار مفاجىء أيضاً، لأن الدافع اليه يبدو في الأصل أشبه ما يكون بشأن سعودي داخلي خاص. الوزير المخطىء هو إبن السعودية ونجمها التلفزيوني المتوج على مدى عقدين وأكثر، منذ أن ربح المليون، ووضع رصيده الكامل هناك، قبل أن يغشيه الهوس بأن ينهي حياته نائباً أو وزيرا في وطنه الأم، فتعرض لخديعة التيار العوني الذي وعده بترشيحه على لوائحه الانتخابية في العام 2018 ثم أخلف الوعد. فكان خياره اللجوء الى زعيم المردة سليمان فرنجية الذي إلتزم، مع دمشق، بتوزيره في الحكومة الحالية.
محدودية تجربته السياسية، المبنية في الاساس على نجومية إذاعية ثم تلفزيونية لا سند لها في الاعلام المكتوب، لم تبعده يوماً عن السعودية، حتى عندما إنجرف في تأييد نظام الرئيس السوري بشار الاسد في وجه ثورة “أكلة الاكباد”، حسب تعبيره.. ولم يخرج من قنواتها إلا لأنه “خسر المليون” وفوائده التي كانت تتضاءل بشكل مستمر. فكانت السياسة اللبنانية ورمالها المتحركة خياره الطبيعي الوحيد.
لم يختلف جورج قرداحي يوماً مع القيادة السعودية، لا سيما في العنوان الايراني، برغم تقديره المستجد لحزب الله، بوصفه أحد صنّاع الرؤساء والوزراء والنواب (المسيحيين خاصة) في لبنان، لكنه ليس الأوحد، ولا حتى الاقوى والاهم. ما قاله في “برلمان الشعب”، هو أقرب ما يكون الى سؤ الفهم لأصداء كلام يصدر عن مقيم دائم في الخليج..وهو بهذا المعنى كلام سيء، لكنه أقل سؤاً مما قاله مثلا وزير الخارجية السابق شربل وهبي قبل أشهر..وأقل خطورة من تجربة الرئيس السابق سعد الحريري مع السعودية، التي أفقدته الرئاسة والاقامة.
أما أن ينسب قرداحي الى محور المقاومة والممانعة الايراني، فذلك إفتئات على الرجل ومكانته المتواضعة، وعلى المحور ومخططه الكبير أيضاً، وإنجرار وراء نظرية ليس عليها أدلة كافية حتى الآن، عن إحتلال إيران للبلدان العربية الاربعة المعروفة، ومنها لبنان، وعن سيطرة “حزب الله” المطلقة (كما هو شائع) على “مفاصل الدولة اللبنانية” غير الموجودة أصلاً، والتي يستطيع الحزب طبعا أن يطلق النار على مؤسساتها جميعا، لكنه لا يجرؤ على الإستيلاء على مخفر درك. وهو قد فعل في معركة الطيونة، وفي معارك عديدة سابقة، لكنه لم ينل الهيمنة التامة، ولن ينالها يوماً..مهما إحتدمت الحروب الإنتخابية اللبنانية.
تكبير الوزير، وتضخيم الخطأ، وتوسيع الحساب ليشمل لبنان كله، لا يخدم إلا إيران، التي تحاورها السعودية بجدية، وحزب الله الذي سيبدو، في تراجعه عن الدفاع عن قرداحي وتأييده التضحية به، أشد حرصاً على الحكومة الحالية وعلى الانتخابات النيابية الوشيكة، وربما أيضا على الانتخابات الرئاسية المقبلة. أما دمشق، فإنها لن تمانع الاقدام على مثل هذه التضحية، من أجل ان ينفتح المزيد من قنوات الحوار مع الرياض.. وهو ما يثير حسدأ لبنانياً لا شك فيه ويطرح السؤال المتكرر: لماذا لا تعامل السعودية لبنان كما تعامل سوريا الاسد، بما هي قلعة إيران الأهم في العالم العربي وقلبها النابض؟
بين لبنان والسعودية، مشكلات جدية متراكمة بلا شك، مثلها مثل المشكلات بين الأردن أو مصر وبين السعودية. وهي لا تحل بإعلان لبنان دولة محتلة من قبل إيران ومحورها وميليشياتها، او دولة خاضعة لها. فهذا لن يؤدي إلا الى تفاقم مشكلة تسرب المخدرات التي ينتجها ذلك المحور الى الاسواق السعودية، وإنتشار آفة التجارة بالممنوعات السياسية في الاسواق اللبنانية.
المصدر: المدن