مع تتالي القرارات التركية التي تُقيّد بشكل أو بآخر حياة السوريين في البلاد فيُحكى عن تضييق، راح كثيرون من هؤلاء يفكّرون في المغادرة وإن خاطروا بحياتهم. فهم فقدوا الأمل في “الجارة” التي كانت ملاذاً لهم قبل أعوام.
تزامن إعلان تركيا عن زيادة في عمليات ضبط المهاجرين السريين مع زيادة خطاب الكراهية والعنصرية من قبل بعض الأتراك بحقّ السوريين. كذلك، مثّلت قرارات تركية رسمية سبباً إضافياً لعودة سوريين مقيمين في البلاد منذ تسعة أعوام إلى المخاطرة بأرواحهم وخوض الهجرة عبر البحر. ويشكو محمد إبراهيم البالغ من العمر 36 عاماً قائلاً لـ”العربي الجديد”: “ضاقت بنا تركيا. بعد الدلال والترحيب، لم نعد قادرين على تحمّل الأعباء المعيشية ونظرة البعض العدائية لنا. ليتني أستطيع الهجرة بأيّ طريقة ممكنة”. ويحكي عن محاولات متكررة في الأشهر الأخيرة للهجرة السرية إلى أوروبا، لافتاً إلى أنّه سأل عن السفر النظامي فوجد أنّ تكلفته “تتخطّى تسعة آلاف يورو (نحو 10 آلاف و500 دولار أميركي) والأمر غير مضمون”، وذلك بعدما قصد ولاية إزمير (غرب) على ساحل بحر إيجه في محاولة للهجرة بواسطة قوارب مطاطية.
يضيف إبراهيم: “أعمل في محلّ لبيع الحلويات بمنطقة السلطان أحمد في إسطنبول، منذ أربعة أعوام. على الرغم من أنّ أجري ارتفع إلى 3500 ليرة تركية (نحو 370 دولاراً) لكنّه بالكاد يكفيني مع التقشّف. فبدل إيجار المنزل ارتفع من 1600 ليرة (نحو 170 دولاراً) إلى 2000 (نحو 210 دولارات) على الرغم من أنّني أقيم في حيّ شعبي. كذلك، فإنّ الأسعار ارتفعت بنسبة تفوق 100 في المائة منذ بداية أزمة كورونا”. ويشير إبراهيم إلى أنّه “إلى جانب كلّ ذلك تُضاف عنصرية بعض الأتراك تجاهنا. فكوني سورياً، ألقى رفضاً في بعض القطاعات، إذ يُمنع علينا الاستئجار مثلاً في منطقتَي الفاتح وإسينيورت في إسطنبول، كذلك ثمّة عدم تقبّل لنا من قبل موظفين أتراك في خلال مراجعتنا الدوائر الرسمية. والأمر مشابه من قبل بعض الباعة”.
وما يشكو منه إبراهيم ينسحب على شرائح سورية واسعة. فالتعاطي التركي مع السوريين تبدّل، سواءً أكان الأمر مرتبطاً بتأجير المنازل أو القرارات الرسمية المتلاحقة من قبيل رفع رسوم التعليم الجامعي الخاص بالسوريين بعدما كانت رمزية، فصارت توازي رسوم أيّ أجنبي يتابع دراسته في تركيا. ومن القرارات كذلك إلزام السوريين الحاصلين على الجنسية التركية بالتوقيع على تنازل عن ملكياتهم في حال الوفاة وعدم وجود وريث تركي. وبالنسبة إلى المدرّس خالد الأسعد، فإنّ الأسوأ هو “فصل نحو 13 ألف مدرّس سوري، مع وعود بإعادة ثلاثة آلاف من الجامعيين الذين يحملون شهادة باللغة التركية. فهذا يجعل مصير تسعة آلاف أسرة سورية مجهولاً، بعد توقّف أجرهم الشهري البالغ 2020 ليرة (نحو 210 دولارات) علماً أنّه الأجر الأدنى في تركيا”.
ويكشف الأسعد، وهو من هؤلاء المفصولين من العمل، أنّ “جلّ المدرّسين الذين أنهت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) وتركيا عقودهم أخيراً، يبحثون الآن عن مخارج لتدبير معيشتهم. والهجرة السرية على رأس الحلول، ويجري البحث عن مهرّبين. ويأتي ذلك بالتوازي مع حلول تقوم على هجرة شرعية من خلال مراجعة السفارات ومكاتب الأمم المتحدة”. ويلفت الأسعد إلى “قرارات كارثية يتّخذها بعض المدرّسين للتغلّب على تردّي ظروف العيش ولتلبية النفقات المتزايدة في تركيا. فبعد توقف الراتب، ثمّة من لجأ إلى تزويج بناته القاصرات لتخفيف المصاريف أو للاستفادة من مبالغ مالية”، مشدّداً على أنّ “هذا الحلّ كارثي وغير لائق بمدرّس من المفترض أنّه واع ومثقّف. لكنّ النظريات غير الواقع، ولا حلول هنا للعيش”. ويبيّن الأسعد أنّ “تركيا لا تمنح السوريين، سوى المسنين وبعض الأسر المسجلة في برنامج مساعدات صوي، أيّ مساعدات، علماً أنّ أصحاب البيوت لا يرحموننا في بدلات الإيجار، وتُضاف إلى ذلك الفواتير والمصاريف المختلفة”. وتعليقاً على الأخبار المتناقلة حول وفيات مفاجئة لعدد من المدرّسين بعد “قرار الفصل التعسفي وغير اللائق”، يقول إنّ “خمسة مدرّسين توفّوا من جرّاء ذبحات قلبية، بسبب الفقر والقهر وعدم توفّر أيّ آمال مستقبلية بعد إنهاء عقود عملهم”.
وفي هذا السياق، كانت وزارة التربية التركية قد أبلغت مختلف المدارس في البلاد التي تضمّ في كادرها مدرّسين سوريين، عبر رسائل إلكترونية بعثتها في العاشر من سبتمبر/أيلول الماضي، أنّ “مديرية التعليم مدى الحياة” التابعة لوزارة التربية التركية والمسؤولة عن التعليم ما قبل الجامعي، قرّرت تعيين موظفين سوريين لدعم التعليم (وهم جزء من المدرّسين المعيّنين سابقاً كمدرّبين متطوّعين) بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في تركيا والهلال الأحمر التركي، شريطة أن يكون الموظفون المُراد تعيينهم حاصلين على درجة بكالوريوس على أقلّ تقدير، مع تحديد مستوى مهاراتهم في اللغة التركية. أضافت أنّها أجرت مفاوضات مع المؤسسات المعنية، المفوضية الأوروبية والهلال الأحمر التركي، وتمّ الاتفاق على تشغيل ما مجموعه ثلاثة آلاف مدرّس سوري فقط، من بين مجموع المدرّسين المتطوّعين الذين يقترب عددهم من 13 ألفاً. وهذا القرار رآه أتراك خارجاً عن إرادتهم، لأنّ منظمة يونيسف أعلنت عن انتهاء برنامجها الخاص بدعم المدرّسين السوريين العاملين في تركيا، ابتداءً من العام الدراسي 2021-2022، وذلك بعد خمسة أعوام من إطلاق مشروع “دمج التلاميذ السوريين في المنهاج الوطني التركي” المدعوم من قبل المفوضية الأوروبية، تحت إشراف منظمة يونيسف ووزارة التربية التركية.
منار عبود من بين المدرّسين السوريين المعنيين، تقول لـ”العربي الجديد”: “لنفترض أنّ السبب هو يونيسف وإنهاء تمويل البرنامج، لماذا لا يُبحَث عن مموّلين آخرين؟ ولماذا لا يُشغَّل المدرّسون في برامج أخرى مدعومة من الاتحاد الأوروبي؟ ولماذا تمّ تشغيل غير سوريّين عندما كانت يونيسف تقدّم دعمها؟”. تضيف عبود: “لنضع كلّ ذلك جانباً. لا بدّ من السؤال: لماذا الاستخفاف وعدم الاحترام؟ أيعقل أن يُنهى عمل مدرّس عبر رسالة إلكترونية، من دون كلمة شكر أو تعويض نهاية خدمة ليتمكّن من تدبير معيشة أسرته ريثما يجد عملاً آخر؟”. وتتابع عبود أنّ “متوسّط عمر المدرّسين السوريين ربّما يكون ما بين 40 و45 عاماً، بالتالي بماذا يستطيع هؤلاء العمل؟ حتى ورش الخياطة ترفضنا، ونحن لا نجيد سوى التدريس”، مشيرة إلى أنّ “ثمّة مدارس عربية خاصة تحاول استغلالنا عبر تشغيلنا بأجور منخفضة. ورغم ذلك، هي قليلة وشروطها صعبة”. وتكمل عبود أنّ “تركيا لا تمنحنا أيّ مساعدات لأنّنا هنا وفق قانون الحماية المؤقتة وليس وفق قانون اللجوء. ويأتي ذلك في حين أنّ الشهر على الباب، بالتالي يتوجّب علينا سداد إيجار المنزل والفواتير وتحمّل تكاليف المعيشة بعد الغلاء الفاحش. من هنا، لا تلوموا من يزوّج قاصراً أو يسعى إلى هجرة سرية على الرغم من مخاطرها على حياته”.
وكانت الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل “فرونتكس” قد أعلنت أنّ عدد المهاجرين الوافدين بطرق غير نظامية إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر غرب البلقان، ارتفع إلى مثلَيه تقريباً هذا العام، وهؤلاء بمعظمهم من سورية وأفغانستان. وكشفت الوكالة أنّ عدد العابرين بطرق غير نظامية للحدود في اتجاه الاتحاد منذ بداية عام 2021، تجاوز 82 ألفاً، أي بزيادة 59 في المائة عن الفترة نفسها من عام 2020. أضافت في بيان أنّ العدد ارتفع في يوليو/تموز الماضي بنسبة 67 في المائة مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي.
وفي حين يتّهم مراقبون تركيا بـ”غضّ الطرف عن الهجرة غير السرية للضغط على الاتحاد الأوروبي”، يؤكد مدير مركز الأبحاث في إسطنبول محمد كامل ديميريل لـ”العربي الجديد” أنّ بلاده “حريصة على منع الهجرة السرية منها وإليها، وهذا قرار اتُّخذ منذ أعوام وتمّ التشدد فيه في العام الأخير بعد المستجدات في أفغانستان وتصاعد قصف نظام الأسد للنازحين السوريين في شمال غربي سورية”. يضيف ديميريل أنّه “على الرغم من مرور خمسة أعوام على اتّفاق الهجرة الموقّع بين تركيا والاتحاد الأوربي في مارس/آذار من عام 2016، فإنّ الأوروبيين لم يفوا بتعهداتهم سواء لجهة رفع تأشيرة الدخول عن الأتراك وإحياء مفاوضات الشراكة أو حتى تسديد ما وعدوا به اللاجئين”. وكان الاتحاد الأوروبي قد تعهّد بتقديم دعم مالي قدره ستة مليارات يورو (نحو سبعة مليارات دولار) لمساعدة تركيا، على الرغم من أنّ تركيا، برأي ديميريل “تنفق أكثر ممّا وعد به الأوروبيون على اللاجئين. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن استخدام ورقة هجرة اللاجئين مثلما يُشاع أخيراً، بل على العكس تتشدّد في ضبط الحدود ومنع الهجرة. ومن يهاجر وتلفظه الدول الأوروبية، خصوصاً اليونان، تتلقّفه تركيا وتقدّم له كلّ المساعدات الممكنة”.
لكن في المقابل، تتصاعد أصوات تركية كلّما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية لتحميل السوريين وزر “مآسي معيشتهم” وارتفاع نسب الفقر والبطالة. ويقول أتراك علانية: “استضفنا السوريين لأعوام وليفتّشوا عن حياة دائمة في أماكن أخرى… بعد عشرة أعوام تعبنا كما تعبوا”. وفي هذا الإطار، يقول أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة ابن خلدون بإسطنبول رجب شان تورك لـ”العربي الجديد”: “فعلاً باتت ظروف السوريين تدفعهم إلى التفكير في الهجرة السرية، لكنّ تركيا غير مسؤولة. هم جاؤوا ضيوفاً معزّزين، بيد أنّ فترة لجوئهم طالت. ما زالت تركيا ترحّب بهم، لكنّها غير قادرة على تكفّل مصاريف أكثر من 3.7 ملايين سوري، علماً أنّها ماضية في التعاون مع برامج مساعدات دولية لتقديم الدعم والمساعدات لمن تبقّى في المخيمات وللأسر الفقيرة ومصابي الحرب والمسنّين”.
يضيف الأكاديمي التركي أنّه “من غير الإنصاف التنكّر لما قدّمته تركيا في الأعوام العشرة الأخيرة وتحميلها اليوم مسؤولية تراجع معيشة السوريين أو تفكيرهم في الهجرة. وفي الوقت نفسه، لا يمكن لأحد منع أيّ سوري من البحث عن حياة أفضل، سواء في أوروبا أو غيرها، لأنّه للأسف تلاشت أحلام الإخوة السوريين في العودة إلى بلادهم مع استمرار الحرب والوضع القائم هناك”. ويلفت شان تورك إلى أنّ “تراجع مستوى المعيشة طاول الأتراك كما السوريين، وارتفاع بدلات الإيجار وغلاء الأسعار حالة عامة. لكنّنا لا ننكر أنّ ثمّة سوريين من دون دخل. لكنّ تركيا قدّمت ما بوسعها، والمجتمع الدولي تركها وحيدة في قضية السوريين، فيما الأوروبيون يتلكؤون في تقديم ما وعدوا به من مساعدات وتمويل مشاريع”.
المصدر: العربي الجديد