تمتاز الرسالة المحمدية بمجموعة من الخصائص البنيوية تجعلها قادرة على الصمود والثبات والإستمرار بل والتمدد والإنتشار رغم الضربات القاسية المتكررة والمركزة التي تستهدفها وتحاول طمس ملامحها وتشويه صورتها والتي تشارك بها اليوم العديد من الجهات النافذة دوليًا وإقليميًا وبإمكانات ضخمة مكرسة لهذا الهدف. واحدة من هذه الخصائص التي تُصعب مهمة أعداء الدين هي عالمية الدين الإسلامي، فالإسلام يتجاوز في خطابه الحدود الجغرافية والعرقية والقومية والإقتصادية والإجتماعية ويركز في الإنسان على أخلاقه وسلوكه ومعاملاته وإنجازاته، وهذه واحدة من أهم عوامل قوته والتي تجعل مهمة حصاره وخنقه غاية في الصعوبة على المتربصين به، لأنهم كلما ركزوا جهودهم على منطقة جغرافية أو مجال يرتبط بالإسلام أو شريحة تنتمي إليه فوجئوا بظهوره أقوى في منطقة أخرى أو لدى شريحة ثانية.
يتعامل الإسلام مع الإنسان كإنسان، بغض النظر عن قوميته أو جنسه أو لونه أو مكانته أو سلطته أو عرقه. يخاطب في الإنسان عقله وقلبه وفطرته، ويعتبر الإنسان قيمة مستقلة بذاتها مكرمة من بارئها بفعل النفحة الربانية التي تسري بين أضلعه وتحرك طاقاته. هناك الكثير من مؤشرات البعد العالمي للإسلام في النصوص القرآنية والسنة النبوية وهي تصلح مادة دسمة للباحثين والكتاب والمهتمين وتستحق منهم بعض الجهد لجمعها وتحليلها والبناء عليها، لكنني سأقتنص منها مشهدًا واحدًا يلقي الضوء على عالمية هذا الدين. حيث كان من أوائل المؤمنين بالرسالة المحمدية القرشي أبو بكر الصديق والحبشي بلال بن رباح ( كانوا من السبعة الأوائل الذين آمنوا بالرسالة كما ورد في بعض النصوص التاريخية ).
رجل غني من قبيلة مهمة له مكانة عالية ونسب عريق وتاريخ طويل في الجزيرة العربية. وعبد فقير أجير لا وزن له ولا مكانة ولا تاريخ في مجتمع عشائري يولي للنسب والمال والتاريخ والإنتماء القبلي أهمية كبيرة.
بالعادة، تستهدف أي حركة أو تنظيم أو نظرية جديدة شريحة محددة من المجتمع لتشكل منها نواتها الصلبة وقاعدتها المتينة في المرحلة الأولى لتكوينها. يتم اختيار النواة الأولى بعناية فائقة بحيث تكون القواسم المشتركة بين أفرادها كبيرة جدًا بما يحقق الإنسجام والتماسك اللازم لجعلها صلبة ومتينة بما يكفي للبناء عليها في المراحل التالية. في البداية لا بد إذاً أن تكون مكونات النواة متجانسة حتى ترسم الملامح المميزة والطابع العام للتنظيم الجديد وتبني قواعده المتينة الصلبة، وبعد ذلك يمكن فتح المجال لشرائح أخرى أقل تجانسًا تمتلك قواسم مشتركة مع النواة الأولى للإنضمام للمجموعة. أما أن تبدأ الدعوة والرسالة المحمدية بقبول متناقضين ومتخالفين لهذه الدرجة في مجتمع له خصائص معروفة فهناك شيء ما غير تقليدي.
ربما نفهم إسلام بلال بدين جديد قد يحسن من مكانته الإجتماعية ويحرره من العبودية، ولكن كيف نفسر حينها إسلام أبي بكر.
وربما نفهم إسلام أبي بكر بدين جديد على خلفية صداقته بمحمد صلى الله عليه وسلم ومكانته القبلية وسلطته المالية التي تحميه من غضب زعماء قريش، ولكن كيف نفسر حينها إسلام بلال.
كيف يمكننا أن نتخيل اجتماع المؤمنين الأوائل بهذا الدين في مجلس واحد يضم عبدًا ما زال يمارس دوره كعبد أجير، مع سيد وزعيم غني ليرسما معًا خطة عمل الرسالة الجديدة ويضعا معًا حلولًا للتحديات التي يحتمل أن تواجهها في مجتمع قبلي له هرمية معروفة وهيكلية لا وزن فيها للعبيد والأجراء وتسيطر عليه تراكمات من التقاليد والسلوكيات التي تقف حائلاً دون هذا اللقاء فضلًا عن التعاون والتنسيق والمحبة . كيف يمكن لهذا أن يحصل بقفزة واحدة فوق حاجز الزمن والعادات والتقسيمات الإجتماعية.
هناك لغز في هذا الدين. وهناك سر في رسالة الإسلام. يكمن اللغز في العدسة التي ينظر من خلالها الإسلام إلى البشر. العدسة التي كتب عليها: ” إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم “. العدسة التي كتب عليها: ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم “. العدسة التي كتب عليها: ” يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء للناس ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين”.
إنها عالمية الإسلام. العالمية التي وجدت لحماية الإنسانية والرقي بها إلى المستوى الذي يليق بالإنسان ويميزه عن غيره من المخلوقات. منذ اللحظة الأولى كانت رسالة الإسلام موجهة لكل البشر فسمى الله نفسه رب العالمين وسمى رسوله رحمة للعالمين. لم يكن عشائريًا ولا قرشيًا ولا عربيًا، لم يكن طبقيًا ولا عرقيًا ولا محليًا، لقد بدأ منذ لحظة اقرأ عالميًا يستهدف في خطابه الإنسان، أي إنسان، وهذا يفسر كون أبي بكر وبلال من المؤمنين الأوائل. ولعل ورود لفظ الإنسان ثلاث مرات في أول سورة ( العلق ) أنزلت على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يشير بشكل واضح لهذا المعنى.
كانت النواة الأولى إذاً متجانسة ولم يخرج الإسلام عن القاعدة في هذه النقطة. لم يكن ثمة تناقض بين الشخصيتين عندما ننفض عن عيوننا غبار المفاهيم البالية والتراكمات السلبية والعنصرية البغيضة وننظر إليهما من عدسة الرسالة المحمدية. كلاهما ينفر من عبادة الأوثان. كلاهما يرفض الظلم والتكبر الذي يبديه زعماء قريش. كلاهما يرفض في أعماقه أن يسجد لحجر أو يُستعبد لبشر. كلاهما يشعر في داخله بانجذاب ما نحو قوة عظيمة متعالية لا تفرق بين الناس على أساس اللون أو السلطة أو المال. كلاهما يمتلك مخزونًا كبيرًا من القيم والأخلاق وتتوق نفسه إلى مجتمع تحكمه منظومة جوهرها القيم والأخلاق. كلاهما يحب الصدق والأمانة المتمثلة بشخصية الصادق الأمين. كلاهما لامست روحه سحر الكلمات الأولى التي أنزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. كلاهما تفاعل مع أول كلمة سماوية( اقرأ ) فقرأ القصة من أولها وأدرك أن لا حدود ستقف أمام انتشار هذه الرسالة السماوية فقرر أن يكون من أعمدتها الأساسية مهما كان الثمن الذي سيضطر إلى دفعه.
لم يكن ثمة أي تناقض بين الشخصيتين بالميزان الإسلامي. الميزان الذي لا يثقل كفته لون أو شكل أو سلطة أو مال أو نسب.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ ” . إنها عالمية الإسلام.
المصدر: اشراق