تعالج هذه الورقة قضيتين، هما: عملية “برخان” التي يقودها الجيش الفرنسي في إفريقيا منذ 2014، وتراجع أستراليا عن عقد بيع غواصات تقليدية كانت قد أبرمته سنة 2016 مع فرنسا لصالح شراكة أنجلو/ساكسونية بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، وفي ضوئهما تحاول فهم تراجع الدور الفرنسي عالميًّا.
إذا كان وباء كوفيد-19 أثَّر منذ عام 2020، ولا يزال يؤثر على المشهد الاستراتيجي العالمي بأكمله، فإن تداعياته ما فتئت تفعل فعلها بطريقة أو بأخرى على جميع دول العالم بشكل يطول الديناميات الصحية والاقتصادية والاجتماعية والبشرية والجيوسياسية، وبشكل مرتبط بالتطورات طويلة المدى. وهذا يجعل من الضروري أكثر من أي وقت مضى الاهتمام بالمكونات التي تميز السياسة الخارجية لبعض البلدان في ضوء تصورها لدورها في العالم.
وهنا نتحدث عن الحالة الخاصة بفرنسا، التي كانت يومًا ما قوة استعمارية ضاربة، وهي اليوم إحدى دعائم الاتحاد الأوروبي، كما أنها تمتلك ترسانة سلاح نووي، وهي كذلك عضو دائم في مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة.
ولا يخفى أن رؤساء وصنَّاع قرار فرنسيين، ومنذ عقود، ما فتئوا يقدمون سرديات، قد تختلف فيما بينها نسبيًّا، حول مكانة بلادهم في العالم، ولا نجد أحدًا من هؤلاء تخلى عن رؤيته للدور العسكري والدبلوماسي والثقافي الكبير الذي على فرنسا أن تلعبه، حتى إنه بإمكاننا القول، في هذا الصدد: إن الإيمان برسالة عالمية للأمة الفرنسية يشكِّل إحدى السمات النادرة المشتركة بين جميع القادة السياسيين والنخب المثقفة في فرنسا. ومن هنا نفهم كيف بات الدفاع عن مكانة فرنسا، والحفاظ على تلك المكانة في العالم، عنصرًا محركًا للسياسة الفرنسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومع التراجع العام الذي عانت منه القوى الأوروبية بعدما فرض عليها النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية أن تصبح في مرحلة ثانوية استراتيجيًّا مقارنة باللاعبيْن الرئيسيْن خلال فترة الحرب الباردة (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي).
وحتى مع تراجع الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن الماضي، وخلال فترة زمنية قصيرة اتسمت بالقطبية الأميركية والتي ما لبثت أن حل محلها منافسة كونية جديدة محتملة بين واشنطن وبكين؛ إذ من المتوقع أن الاقتصاد الصيني سيحتل المركز الأول عالميًّا على المدى المتوسط. ولا يبدو أن هذه التحولات الكبرى قد ألجمت باريس التي ترى نفسها لاعبًا مهمًّا في المسرح الدولي. ومن غير المستبعد أن توفر العولمة الاقتصادية والتكنولوجية فرصًا لفرنسا، إذا ما عرفت كيف تستغل بذكاء وفهم استراتيجي، ما لديها من قدرة على الاستمرار في التأثير على الوضع الدولي الجديد.
ولذلك، وفي ضوء أجندة “الرامية للحفاظ على المكتسبات” هذه (وهي أجندة تعني بذل كل ما في الوسع لضمان استمرار مكانة فرنسا ورتبتها العالمية، وهي رتبة يجري الحديث عنها كثيرًا دون تحديدها بوضوح)، يجب أن نفهم النقاشات الأخيرة، والتي أثارت غضب دوائر صنع القرار في هرم السلطة بباريس؛ إذ يبدو أن التطورات الأخيرة تشكِّك أو حتى تُضعف من هذا المكانة الخاصة في العالم.
وسينصبُّ اهتمامنا في السطور اللاحقة على معالجة قضيتين تمثِّلان ما يمكن اعتباره ثغرة متنامية وبنيوية بين ما تعتقد فرنسا أنها يمكن أن تفعله وبين الكيفية التي غالبًا ما تجد فرنسا نفسها مضطرة للتعامل معها على نطاق عالمي، ونعني هنا أساسًا مسألتين، وهما: عملية “برخان” التي يقودها الجيش الفرنسي في إفريقيا منذ 2014، وتراجع أستراليا عن عقد بيع غواصات تقليدية كانت قد أبرمته سنة 2016 مع فرنسا لصالح شراكة أنجلو/ساكسونية بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى.
فرنسا في منطقة الساحل والصحراء: بين الدور التاريخي والحقائق الجيوسياسية الجديدة
بدأت عملية برخان، في 1 أغسطس/آب 2014، وقد حلَّت محل عمليتين سابقتين، هما: عملية سيرفال (التي بدأت في يناير/كانون الأول 2013 في مالي)، وعملية إبيرفييه (التي بدأت في فبراير/شباط 1986 والموجهة حينها ضد قوات العقيد القذافي في شمال تشاد).
وتهدف برخان، بالتعاون مع بعض دول منطقة الساحل (مالي وموريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد) للتغلب على الجماعات الجهادية التي تعمل في هذا الجزء من إفريقيا منذ عدة سنوات. في فبراير/شباط 2020، شارك ما يُقدَّر بنحو 5100 جندي فرنسي في مسارح العمليات المختلفة بهذه المنطقة(1)، كما التحق بهم بضع عشرات من الجنود البريطانيين والإستونيين لإسناد مجموعات التدابير الفرنسية بالساحل، بالإضافة إلى الدعم اللوجستي والتكنولوجي من حيث المعلومات الاستخباراتية التي قدمتها الولايات المتحدة على شكل طائرات بدون طيار على وجه الخصوص.
في المقابل، تواجه عملية برخان الفرنسية حوالي ثلاثة آلاف مقاتل جهادي ما فتئوا يزعزعون استقرار دول الساحل(2). علاوة على ذلك، وإذا كان القادة الفرنسيون قد حاولوا سنة 2014 توسيع عملياتهم العسكرية لتصل إلى جنوب ليبيا، خصوصًا أن جنوب ليبيا بات مثابة للجماعات الجهادية تجد فيها الإمدادات والمعدات العسكرية. ومن هنا اتخذت باريس قرارها بالعمل العسكري مع الدول الخمسة المذكورة سابقًا والمعروفة باسم “جي 5 الساحل”.
وإلى جانب عملية برخان، فقد تعيَّن على فرنسا أيضًا التعامل مع نقاط توتر أخرى خطيرة ومرتبطة بالتكوين الاجتماعي والسياسي الداخلي لبعض الدول، وخصوصًا في جمهورية مالي المضطربة والتي ينعدم فيها الاستقرار الداخلي منذ عام 2012، ويتضح ذلك إذا ما نظرنا إلى سلسلة الانقلابات العسكرية المتتالية، والتي كان آخرها في 24 مايو/أيار 2021، حين أقال الضابط هاشمي غويتا الرئيس باه نداو. هذا فضلًا عن التوترات العرقية و/أو السياسية الخطيرة (وتتجلى معالم تلك التوترات في النجاحات التي حققتها الجبهة القومية لتحرير أزواد واستيلائها على محافظة كيدال، سنة 2013) التي استخدمتها الحركات الجهادية(3).
قد توضح أزمات منطقة الساحل المختلفة للوهلة الأولى شكلًا معينًا من الاتساق الجيوسياسي، ففرنسا هي الدولة التي كثيرًا ما تطلب منها بعض الدول الإفريقية التدخل من أجل حماية نفسها من التهديد الجهادي الداخلي والخارجي. وبهذا المعنى، فإن فرضية استمرارية ضبط الأمن بالساحل تستند إلى ما كان يُعرف في دواليب السياسة الفرنسي بـ”فرانس/أفريك” ولا يمكن تحليلها وفهمها إلا أنها إشارة إلى الهيمنة الاستراتيجية المطلقة للقوة الاستعمارية السابقة.
ويبقى السؤال: ماذا يعني دفاع فرنسا اليوم عن بلد حليف لها؟ لا شك أن ظهور المجتمعات بوصفها لاعبًا مهمًّا في المسرح الدولي، يشوِّش دون شك على اللعبة التقليدية للجغرافيا السياسية العالمية، تلك اللعبة التي ترى أن قوة تدخل سريع قادرة على حل عدد كبير من المشاكل الأمنية والاستراتيجية. وإذا كانت عملية برخان قد لقيت في البداية دعمًا حقيقيًّا من السكان الماليين، إلا أن ذلك الدعم تلاشى مع تقدم المواجهات. ويتجلى هذا إذا ما فهمنا أن الصراع بين الجيش الفرنسي والجهاديين كان بعيدًا كل البعد عن أن يلخص بمفرده مجمل الوضع الاستراتيجي لمنطقة الساحل.
إننا، في الواقع، نلاحظ ظاهرة تشابك التوترات والصراعات، التي بات المتغير الجهادي فيها مهمًّا، ولكنه بعيد كل البعد عن تلخيص الوضع على الأرض. إذا كان العديد من المراقبين يميلون إلى وجود تشابه بين مالي وأفغانستان(4)، ويتوقعون أن فرنسا ستواجه سيناريو مشابهًا لما واجهته الولايات المتحدة، فمن المؤكد في الوقت الحالي أنه على الرغم من النجاحات التي لا يمكن إنكارها، فإن الجيش الفرنسي بعيد كل البعد عن وضع حدٍّ للحالة الجهادية في الساحل.
إن قدرات الجماعات الجهادية في المنطقة لم تتأثر خلال كل ما حدث، وهو ما من شأنه أن يجعلنا نجزم بأن هذه الجماعات لا تزال تشكِّل تهديدًا حقيقيًّا لمالي. بالإضافة إلى ذلك، وبصرف النظر عن حقيقة أن الانتقادات التي تشير إلى عجز فرنسا عن حماية المواطنين الذين يعملون معها في الميدان (مخبرون، موظفون مساعدون،…إلخ)، فإن هؤلاء ما فتئوا مستهدفين بانتظام من قبل الجهاديين، الذين يجدون في استهدافهم طريقة للانتقام من حكومة باماكو وحليفتها فرنسا. لقد ضعف دعم السكان لعملية برخان؛ حيث يُنظر إلى فرنسا اليوم على أنها قوة محتلة، أو أنها على الأقل مهتمة بشيء آخر غير بقاء دولة مالي، على سبيل المثال.
إن الحرب الطويلة التي تلوح في الأفق دون أية إمكانية جادة لتحقيق نتيجة سياسية مرضية، نتيجة ستوفر، لو حصلت، مادة للتفكير حول وزن فرنسا في منطقتها الإفريقية السابقة.
إن تكاثر الفاعلين المحليين وتشابكهم مع القضية الجهادية العابرة للحدود، يجسد أكثر من أي وقت مضى تحديًا، تجد القوى الغربية أكبر الصعوبات في احتوائه. لقد أفسحت الحرب التقليدية الطريق لصراعٍ متعدد الأبعاد ينطوي، على عكس كل التوقعات، على مزيد من العوامل الأنثروبولوجية أكثر منها عوامل أيديولوجية في مالي أو أفغانستان أو أي مكان آخر.
ولا ننسى أن رئيس أركان القوات المسلحة، الجنرال فرانسوا لوكوانتر، كان قد قال في فبراير/شباط 2018: “لا أعتقد أنه من الممكن حل المشكلة في مالي في أقل من عشرة إلى خمسة عشر عامًا. إذا كان الأمر كذلك فإنه لن يمكننا، إن تطور الوضع في مالي بشكل غير مرض، أن نغادر غدًا، دون أن يكون الأمر يتعلق بالغرق في المستنقع”(5).
فرنسا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ: إرث قوة عظمى يتراجع
تعتبر منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مثل غرب إفريقيا، منطقة من مناطق الوجود العسكري الفرنسي، ولكنها لا تتطلب تدخلًا كبيرًا من أجل دعم الدول الحليفة. وعلى العكس من ذلك، ففي هذا الجزء من العالم، تكتفي القوة الفرنسية بطريقة معينة بدعم البلدان التي تحافظ معها على علاقات جيدة من حيث التعاون العسكري والتكنولوجي، والتي غالبًا ما تتخذ شكل مبيعات المعدات العسكرية والأسلحة.
ومع ذلك، وفي هذا المجال أيضًا، يبدو أن الرهانات الجديدة للسلطة تُضعف مواقف باريس لصالح أنظمة وتحالفات تستثني فرنسا وتخرجها من الحسابات الاستراتيجية التي تتم، والتي يكون ترتيبها على حساب قوة فرنسا، تلك القوة التي صار يُنظر إليها من الآن فصاعدًا على أنها قوة مكمِّلة لا قوة مركزية. لذلك، فإن الأحداث التي وقعت في الأسابيع القليلة الماضية كانت ذات مغزى عميق وعلى أكثر من صعيد.
على الرغم من أنه كان من المؤكد أن فرنسا سوف تبرم عقد تسلح مهم مع أستراليا، فإن هذا الأمر قد شهد انهيارًا فأُزيح اللاعب الفرنسي لحساب تضامن أنجلو ساكسوني يوحِّد بين العملاق المحيطي وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة، كل ذلك على حساب باريس التي ما فتئت تنخرط في سياسة مشاركة في شؤون آسيا والمحيط الهادئ.
على الرغم من أن أراضيها القومية بعيدة جغرافيًّا عن منطقة آسيا والمحيط الهادئ، إلا أن فرنسا تبقى قوة مشاطئة لدول المحيط الهادئ بحكم أراضيها الموجودة في كاليدونيا الجديدة، وفي واليس وفوتونا، وفي بولينيزيا الفرنسية، وفي جزيرة كليبرتون. وفرنسا موجودة أيضًا في جنوب المحيط الهندي في جزر مايوت وريونيون وجزر إيبارس (الجزر المتناثرة) الفرنسية، والأراضي الجنوبية والقطبية الجنوبية الفرنسية، وأيضًا عند مصب المحيط إلى الشمال الغربي، من خلال وجودها العسكري الدائم في الإمارات العربية المتحدة وجيبوتي. إن هذا الوجود المتميز بين الدول الأوروبية، يمنح فرنسا مسؤوليات خاصة في مجال الدفاع والأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
ومنذ منتصف التسعينات، عادت فرنسا إلى المشاركة بقوة في هذا الجزء من العالم، واتخذت العديد من المبادرات التي من شأنها أن تجعل أوروبا وآسيا أكثر ترابطًا سياسيًّا واقتصاديًّا، ولاسيما من خلال المبادرة التي اتخذتها فرنسا مع سنغافورة والمتعلقة بمنتدى آسيا/أوروبا (ASEM)، في عام 1996.
وفيما يتعلق بالأمن، طوَّرت فرنسا عملها على مستوى متعدد الأطراف وذلك من خلال المشاركة في عمليات عسكرية متعددة في إطار الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ومن خلال المشاركة النشطة في العديد من أطر الحوار، ولاسيما حول القضايا البحرية. وأخيرًا، من خلال تعزيز العلاقات الدفاعية الثنائية بشكل كبير مع الدول الرئيسية في آسيا وأوقيانوسيا.
وتتميز السياسة الفرنسية في هذا الصدد بالرغبة في تطوير نهج شامل للعلاقات الدفاعية والأمنية، وهي رغبة ترتكز على ثلاث ركائز: الحوار السياسي العسكري، والتعاون العسكري، والتعاون في مجال التسلح. يساعد هذا النهج الشامل على هيكلة شراكات جيدة بين الدول ذات السيادة، على أساس المعرفة المتبادلة والثقة والمصالح المشتركة، وإظهار الإرادة الفرنسية لالتزام سياسي قوي ومسؤول وطويل الأجل.
ومنذ منتصف التسعينات، أقامت فرنسا حوارات رفيعة المستوى و”شراكات استراتيجية” مع اليابان (1995)، وقد رفعت إلى المستوى الوزاري في (2012)، ومع الصين (1997)، ثم الهند (1998)، وإندونيسيا (2011)، وكذلك أستراليا ( 2012) وسنغافورة (2012) وفيتنام (2013)، كما أقامت علاقة دفاعية استراتيجية وثيقة مع ماليزيا.
وهذه الأطر المعزِّزة للحوار والتعاون، والتي يرأسها من الجانب الفرنسي كبار المسؤولين في رئاسة الجمهورية أو وزارة الخارجية، لا تزال تشمل قسمًا يتعلق بالقضايا الدولية والدفاعية والأمنية. وفي أغلب الأحيان، تكون اللجان المتخصصة، لاسيما في مجال الدفاع والأمن، مسؤولة عن تعميق التعاون الثنائي والإبلاغ عن التقدم الذي تحرزه على مستوى عالٍ(6).
لذلك، ليس من الخطأ أن نصف ما حدث مع أستراليا بالإخفاق الخطير الذي أثَّر على فرنسا خصوصًا في هذا العام، وذلك حين اختارت كانبرا، يوم الأربعاء، 15 سبتمبر/أيلول 2021، التراجع عن عقد بقيمة 34.5 مليار يورو (بما في ذلك 8 مليارات لشركة DCNS الفرنسية) لتزويد غواصات “باركودا شورتفين” (Barracuda Shortfin) التقليدية. ويبدو أن أستراليا تفضِّل بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية واستخدام التقنيات الأميركية والبريطانية، وهو ما أثار نزاعًا دبلوماسيًّا كبيرًا بين باريس وحلفائها(7).
وقد ألقت الحكومة الفرنسية باللوم على شركائها، ووصفت وزارة الخارجية الفرنسية ما حصل بـ”القرار المؤسف”، في بيان يوم الخميس، 16 سبتمبر/أيلول 2021. وأضاف وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، في اليوم نفسه أن ما حصل “ضربة تحت الحزام” من طرف الأستراليين.
في أعقاب الإعلان الأسترالي، أعلنت الولايات المتحدة عن شراكة أمنية واسعة مع أستراليا ومع المملكة المتحدة في منطقة المحيطين، الهندي والهادئ، وتسمى هذه المبادرة الرئيسية اتفاقية “أوكوس” (AUKUS)، (الحروف الأولى من أسماء الدول الثلاثة: المترجم)، وستقضي بتسليم أسطول من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية إلى أستراليا. كما جرى تبيين ذلك في لقاء ترأسه جو بايدن في البيت الأبيض، وتحدث عنه كذلك رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، الذي ظهر في مؤتمر عبر الفيديو، مع نظيره البريطاني، بوريس جونسون.
وهكذا يبدو أن إصلاح التوازنات الجيوستراتيجية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ تجري صياغته بشكل علني ومتطور من خلال محور مركزه واشنطن، ويشكِّل جزءًا من سياسة أميركا لاحتواء النفوذ الصيني في المنطقة.
وفي هذا الصدد، فإن السياسة الفرنسية المتمثلة في تعزيز وجودها في هذا الجزء من العالم تتعارض مع مشاريع الجهات المهتمة بأعالي البحار والتي ترى أن العلاقة الثنائية مع باريس أضعف بنيويًّا من تلك التي توحد بين هذه الجهات. فهذه الجهات ذات الرابط الأنجلو ساكسوني تتكتل في إطار التحالف الثلاثي للولايات المتحدة/بريطانيا العظمى/أستراليا “أوكوس” (AUKUS) الذي أُعلن عنه في 15 سبتمبر/أيلول 2021. إنها قوة مكمِّلة وليست قوة تدريب في نظر العديد من دول العالم، لذلك وجدت فرنسا أن مستوى طموحاتها انخفض بمجرد ظهور دول أو تحالفات أكثر قوة.
وبعد إبعاد فرنسا من المحيط الأنجلو/سكسوني، فهل ستسعى الآن إلى التركيز على تحالفاتها وشراكاتها في المجال الفرنكفوني، أم إنها لا يزال من الممكن أن يكون لها تأثير عالمي حقيقي عندما تكون مصالحها على المحك؟ ومما لا شك فيه أن أحداث الأسابيع القليلة الماضية ستؤثر بشكل كبير على التوجهات الاستراتيجية لباريس في السنوات وحتى العقود القادمة.
في مواجهة هذه التطورات، التي تمثل إشكالية كبيرة تمس مصداقية فرنسا الاستراتيجية والدبلوماسية، يبدو أن باريس اليوم مترددة بين تولي زمام قيادة أوروبا الموجهة نحو الاستقلال الجيوسياسي والإحاطة علمًا بالوضع العالمي الجديد الذي لا يترك سوى مجال ضئيل للقوى الوسطى (حتى لو كانت لا تزال مهمة مثل فرنسا، ويرجع ذلك أساسًا إلى ماضيها كلاعب عالمي رئيسي).
إن تراجع أوراق القوة الأممية الذي يطبع أوروبا القارية بشكل أساسي، لا يعني أن هذه الدول الأوروبية لم تعد فاعلًا استراتيجيًّا مهمًّا، لكن ما حدث يولِّد أسئلة أقل أهمية حول قدرتها على التأثير كما تريد هي نفسها، تأثير يناسب التطور الجيوسياسي لعالم لا تطلب فيه الإمبراطوريات الجديدة سوى استبدال الإمبراطوريات القديمة.
محمد علي الدراوي أستاذ محاضر في العلاقات الدولية بمعهد الدراسات السياسية بباريس.
مراجع
(1)- La France va déployer 600 soldats supplémentaires au Sahel, Le Monde avec AFP du 02 février 2020 2021 (Accès le 2 Octobre 2021): https://bit.ly/2WKdwzl
(2)- Peter Bergen and Emily Schneider: Jihadist threat not as big as you think, CNN, September 29, 2014, (accessed October 3, 2021): https://cnn.it/3aegKhm
(3)- Centre du Mali : enrayer le nettoyage ethnique, Crisisgroup, 25 March 2019 (Accès le 29 Septembre 2021): https://bit.ly/3mqbWv5
(4)- Danielle Paquette and Rick Noack: France’s drawdown in West Africa fuels local extremists’ hope for a Taliban-style victory, Washington Post, August 27, 2021 (accessed September 30, 2021): https://wapo.st/3iBWH1f
(5)- Pierre Alonso: François Lecointre, chef d’état-major des Armées, quittera ses fonctions en juillet, Libération du publié le 14 juin 2021 (Accès le 29 Septembre 2021): https://bit.ly/3AdFnp2
(6)- Présentation de la politique de défense et de sécurité de la France en Asie-Pacifique – 10 avril 2014, Ministère des Armées, 30/04/2014 (Accès le 29 Septembre 2021): https://bit.ly/2YvHCHv
(7)- Daniel Baer, Sub Snub Has Paris in a Tizzy Over AUKUS (The French are right to be upset—but only about the money, not the strategy). Foreign Policy, September 17, 2021 (accessed September 30, 2021): https://bit.ly/2WJqttb
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات