لقد وصلت الأمور في سوريا إلى الطريق المسدود بالنسبة إلى السوريين، سواء أولئك الذين ثاروا على النظام أم من التزم الصمت، أو من وقف إلى جانب سلطة الاستبداد والفساد.
وهذا الاستعصاء تتحمّل مسؤوليته السلطة بالدرجة الأولى؛ ولكن هذا لا يعفي المعارضة من المسؤولية، كما تتحمل المسؤولية أيضاً القوى الإقليمية والدولية التي لم تساعد السوريين كما ينبغي، وكما وعدت.
ولعل التركيز على العوامل الداخلية المحلية التي تسببت في الاستعصاء المعني هنا يكون أكثر جدوى، فذلك قد يساعدنا على تسليط الضوء على العوامل التي تحول دون الوصول إلى حل داخلي واقعي مقبول للخروج من الوضع الكارثي الذي يطحن السوريين بصورة يومية وعلى مختلف المستويات. أكثر من نصف الشعب مهجّر. حوالي مليون قتيل. مئات الآلاف من المعاقين. يوازيهم عدد مماثل من المعتقلين والمغيبين. هذا فضلاً عن الدمار الشامل الذي أصاب المدن والبلدات والمؤسسات الخدمية والبنية التحتية. ويُضاف إلى ذلك ملايين الأطفال الذين حرموا من التعليم المنظّم، ومن الرعاية الصحية الضرورية. وفي السياق ذاته يُشار إلى الوضع المعيشي البائس في جميع المناطق السورية؛ هذا إلى جانب مشكلات اجتماعية بالغة الخطورة، وتفكك النسيج المجتمعي الوطني السوري.
مما لا شك فيه هو أن السلطة، وعلى رأسها بشار الأسد، تتحمل المسؤولية الكبرى في كل ما أصاب السوريين. لأنها منذ البداية، وحتى قبل الثورة، لم تصغ إلى مطالبهم الخاصة بالإصلاح؛ وإنما التفت حولها، واستخدمت كل أساليب المماطلة والتسويف والخداع والتضليل لتستمرّ في استبدادها وفسادها، هذا على الرغم من إقرارها بمشروعية تلك المطالب، ورفعها للشعارات التي كانت توحي بأن الإصلاح ستكون له الأولوية. ولكن بعد عقد كامل من حكم وارث الجمهورية بموجب هرطقة دستورية، وجد الناس أن القمع هو سيد الموقف، وأن البؤس هو مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. فكانت ثورة الشباب من جميع المكونات السورية الذين وجدوا أن الآفاق قد انسدت أمامهم؛ وأن أحزاب المعارضة التقليدية هي أضعف من أن تمارس ضغطاً من أجل تغيير نحو الأفضل، وأن وعود النظام هي للتخدير والتضليل ليس إلا.
ولكن السلطة عوضاً عن أن تتفهم المطلوب، وتسعى من أجل اتخاذ إجراءات فعلية تُشعر المتظاهرين بوجود نية جادة للمعالجة، استخدمت الشعارات والوعود الكاذبة مرة أخرى. وجميعنا ما زال يتذكر «حزمة الإصلاحات» الخلبية التي أعلنت عنها بثينة شعبان وهي في حالة هيستيرية. في حين أن رأس النظام أرسل الجيش إلى درعا، اعتقاداً منه أن إرغام الناس هناك على الصمت عبر القمع سيؤدي إلى ترويع السوريين في سائر أنحاء البلاد. ولكن النتيجة كانت عكسية، فقد عمّت المظاهرات والاحتجاجات غالبية المناطق السورية، واستمرت السلطة في حربها على السوريين، وتمسك السوريون بثورتهم.
وحينما تيقّنت السلطة من عجزها عن مواجهة ثورة السوريين، استنجدت بالنظام الإيراني، كما استنجدت بالميليشيات، ومارست اللعبة التي تتقنها جيداً، وهي لعبة التفريق بين المكونات السورية، وتأليب بعضها ضد بعضها الآخر. كما أطلقت سراح المتشددين الإسلامويين، وركزت على استراتيجية الربط بين الثورة والإرهاب.
وحينما أدركت أن كل ذلك لن ينقذها، استنجدت بالروس ليساعدوها في البقاء مقابل فتح البلاد أمامهم، وإشراكهم في أدق التفاصيل إلى جانب الإيرانيين. وكل ذلك تحت شعار «المقاومة والممانعة» وحماية السيادة الوطنية و»محاربة الإرهاب».
أما رأس النظام، فقد كان، وما زال، في كل خطاباته ينطلق من عقلية انتقامية ثأرية، يهدد ويتوعد، ويخوّن؛ وهدفه من ذلك هو سد أبواب الحوارات الوطنية الجادة بين السوريين من مختلف التوجهات ممن يحرصون على شعبهم وبلدهم.
والمشكلة لا تتجسد في بشار الأسد وحده، وإنما في أصحاب القرار من المحيطين به. فهؤلاء، وبعد عشرة أعوام من القتل والتهجير والتدمير ما زالوا يحلمون بإعادة السوريين وسوريا مجدداً إلى الوضع السابق. هذا في حين أن الشروخ التي أُحدثت في النسيج المجتمعي السوري تستوجب طاقات وطنية هائلة، لا بد أن تبذل على جميع المستويات من أجل مصالحة وطنية مبنية على ثقة متبادلة بإمكانية العيش المشترك.
أما بالنسبة إلى المعارضين «الرسميين» الذين ما زال بعضهم يعتبر نفسه ممثلاً للثورة السورية، فلم يتمكنوا من تقديم البديل المقنع للسوريين أولاً، وللمجتمع الدولي ثانياً.
فعلى الصعيد الوطني، لم تتمكن هذه المعارضة من طمأنة جميع السوريين، على الرغم من جهود كثيرة بُذلت في هذا المجال في بدايات الثورة. فما نواجهه اليوم يتشخص في اطروحات دينية مذهبية متشددة، وأخرى قوموية عنصرية. والطريف أن الجميع يعلن عن حرصه على وحدة سوريا، ولكن من دون أن تكون هناك المساعي المطلوبة من أجل البناء على القواسم المشتركة بين السوريين، وهو الأمر الذي من شأنه المحافظة على وحدة الشعب والوطن.
نحن نعلم جميعاً أن الحدود التي رسمت لسوريا قبل مئة عام كانت بإرادة القوى الدولية التي تمكنت بفعل تفوقها في مختلف الميادين من فرض شروطها، ورعاية مصالحها في منطقتنا عبر تقسيمها إلى دول خاضعة لنفوذها. ولعله من نافل القول أن يُشار هنا إلى أن تلك القوى لم تعط أي أهمية لتطلعات سكان المنطقة، ولم تساعدهم لتأمين امكانيات العيش المشترك بين مختلف المكونات المجتمعية.
وعلى مدى مئة عام، أخفقت النخب السياسية في هذه الكيانات الوليدة من تحويلها إلى أوطان تشعر جميع مواطنيها بالأمان والاطمئنان؛ بل ظلت الصراعات مستمرة بين مختلف أجنحة السلطات التي تعاقبت على دفة الحكم، وغالباً ما كانت تلك الصراعات تحسم بفعل انقلابات عسكرية. وكانت الأيديولوجيات العابرة للحدود هي الأداة التعبوية التي اعتمدتها المجموعات المتصارعة على الحكم، سواء تلك التي كانت في السلطة، أم تلك التي كانت في المعارضة.
وفي يومنا هذا، لم تعد القوى الدولية المؤثرة على الساحة العالمية هي التي تتدخل في أوضاع هذه الدول فحسب (سوريا والعراق ولبنان على سبيل المثال) وإنما باتت القوى الإقليمية الكبرى هي الأخرى في موقع القادر على التدخل والتأثير المباشر في المفاصل الداخلية لهذه الدول ومجتمعاتها. ويُشار في هذا السياق إلى كل من إيران وتركيا واسرائيل.
إن ما ينقذ السوريين، ويضع حداً لمعاناتهم القاسية المستمرة منذ عقد من الزمن، ويفتح الآفاق أمام الاستقرار والأمان في بلادهم، هو أن تبادر النخب الوطنية السورية في مختلف المجالات من التي تشعر بمسؤوليتها تجاه شعبها ووطنها إلى التواصل والتفاعل خارج نطاق التصنيفات النمطية. وتدخل في حوارات بناءة تبحث عن الحلول لا عن إثارة المشكلات. فالمشكلات التي نعاني منها كثيرة، ولا يمكن حلها إذا ما لجأ كل طرف إلى عقلية المحامين التي تتمحور حول تفنيد حجج الخصم، حتى ولو أدى ذلك إلى التحوير في الحقائق أو تجاهلها.
سوريا بتركيبتها المجتمعية لا تتحمل التعصب الديني أو القومي أو الأيديولوجي. وقد أثبتت التجارب التي كانت، سواء في سوريا نفسها أم في غيرها، أن دول منطقتنا التي تتسم بتعدديتها وتنوعها الديني والمذهبي والقومي، أن كل المحاولات التي استهدفت الربط بين الدولة والهوية القومية أو الدينية أو المذهبية أسفرت عن عدم الاستقرار، وكانت، وما زالت، من أسباب خلق الصراعات العقيمة التي انهكت الطاقات، واستنزفت الموارد، وتسبب في الكوارث التي ما زالت شعوب منطقتنا تدفع ضريتها، وتعاني من تبعاتها المأساوية.
من أهم ما يحتاج إليه السوريون هو التوافق على مبدأ حيادية الدولة التي تحترم سائر الخصوصيات وتعترف بالحقوق المترتبة عليها. دول تطمئن جميع السوريين من دون أي استثناء، وتجعل من سوريا ميداناً للتواصل والتفاعل الحضاريين بين شعوب ودول المنطقة؛ لا ساحة للصراعات والمشاريع التوسعية، وحروب الوكالة.
إمكانيات العيش المشترك بين السوريين هي أقوى بكثير من حسابات بعضهم ممن ارتبطوا بالمشاريع الأجنبية، واستقووا بها على أهل الوطن. ولكن هذه القواسم المشتركة تحتاج إلى التعزيز والترسيخ، وذلك يتم عبر المناهج الدراسية، ووجود الأحزاب الوطنية التي تتبنى برامج وسياسات تركز على السوريين ووطنهم، وتجمع بين سوريين يؤمنون أن خيار الوطن السوري هو خيارهم النهائي. أحزاب لا تبيعهم الأوهام من خلال شعارات عابرة للحدود، وهي الشعارات التي لم تجلب للسوريين سوى الكوارث، وقد استغلتها سلطة الاستبداد والفساد، لتسويغ تسلطها وتجاوزاتها وتحكّمها بمفاصل الدولة والمجتمع السوريين عن طريق الأجهزة القمعية على مدى عقود.
سوريا تمتلك الطاقات الإبداعية، والموارد البشرية والطبيعية ما يمكنها من أن تكون في مصاف الدول المتقدمة لا على الصعيد الإقليمي فحسب، بل على الصعيد العالمي، ولكن ذلك لن يتحقق من دون توافق النخب الوطنية السورية على مشروع وطني سوري طموح، مشروع يرتقي إلى مستوى تطلعات السوريين، ويقطع نهائياً مع عقلية وممارسات الاستبداد والفساد.
*كاتب وأكاديمي سوري
المصدر: القدس العربي