لم تبلغ أوكرانيا في عدائها لروسيا التي طالما اعتبرتها “الشقيقة الكبرى”، ذلك الحد من العداء الذي بلغته خلال السنوات الأخيرة منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في فبراير (شباط) عام 2014. كما أن التاريخ لم يشهد تصاعد الخلاف بين البلدين إلى الحد الذي جنحت فيه أوكرانيا صوب محاولات جمع كل خصوم روسيا تحت راية جبهة واحدة أطلقت عليها “منصة القرم”، في أعقاب سلسلة من التصريحات والخطوات العدائية ومنها العسكرية التوجه والمضمون. وكانت كييف بادرت بدعوة زعماء ما يزيد على أربعين دولة ومنظمة دولية للمشاركة في “منصة القرم”، لمناقشة جدول أعمال، تضمن جملة من القضايا التي تصدرتها ما وصفته بقضية “احتلال” روسيا شبه جزيرة القرم، سعياً وراء حشد الجهود الدولية الرامية إلى تكثيف الضغوط ضد روسيا، وعدم الاعتراف بضم القرم، والعمل من أجل دعم مواقف أوكرانيا من أجل استعادتها.
مناقشة قضية القرم
وعلى الرغم من الضجيج الإعلامي واسع النطاق، وما صدر عن المجتمعين من بيان يؤكد عدم الاعتراف بضم القرم، والتزام النظر في المزيد من العقوبات ضد روسيا، فقد التزمت موسكو موقفاً لم يخرج في إطاره العام عما سبق وأعلنته في أكثر من مناسبة. وذلك ما كشفت عنه في ردها على طلب الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، بشأن اللقاء مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وهو ما أكدت مصادر الكرملين بشأنه “أن الرئيس فلاديمير بوتين مستعد للقاء الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي والمضي في طريق تطوير العلاقات الثنائية معاً”. أما عن “احتمالات مناقشة قضية القرم”، فقد أوجزها دميتري بيسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين، بقوله “الحقيقة هي أن موضوع القرم غير موجود بالنسبة إلينا. وكما قيل لنا في مكتب رئيس أوكرانيا، يريد زيلينسكي مناقشة شبه جزيرة القرم. حسناً، شبه جزيرة القرم من أي وجهة نظر؟ من الواضح أنها ليست من هذه النقطة، معتبراً أن هذه منطقة تابعة لروسيا الاتحادية. وفي هذا الصدد، لا يمكن أن يكون هذا بنداً على جدول أعمال المفاوضات. لذلك، حتى الآن، لم يُحرز أي تقدم في هذا الصدد”.
وفيما أعرب عن شكوكه تجاه جدوى مثل هذا اللقاء في ظل ما يصدر عن رئيس أوكرانيا من تصريحات، قال بيسكوف إن الشعب الأوكراني مدعو إلى تقييم نشاط زيلينسكي وتصريحاته. وعاد ليقول “إننا لا نرى حتى الآن الإرادة السياسية المتبادلة نفسها من كييف. وإنه إذا تحدثنا عن الإرادة السياسية للرئيس بوتين، فقد أكدها بوضوح وأعاد تأكيدها: إنه مستعد للقاء، ويعتقد أن الحالة المثيرة للأسى والحزن، التي تعيشها العلاقات الروسية – الأوكرانية الآن لا قيمة لها، ومن الناحية النظرية هي كذلك”.
ومضى المتحدث باسم الكرملين في حديث صحافي أدلى به إلى صحيفة “أزفيستيا”، ليقول إنه “لا يسعنا إلا أن نقول إن روسيا الاتحادية، ممثلةً بالرئيس بوتين، تؤكد مرة أخرى رغبتها في تطبيع العلاقات مع أوكرانيا”. وذلك ما عاد الرئيس بوتين ليعلنه من فلاديفوستوك في حديثه إلى المشاركين في “المنتدى الاقتصادي” الذي انتهى من أعماله نهاية الأسبوع الماضي، حين قال إنه “يتوقع استعادة العلاقات مع أوكرانيا عاجلاً أم آجلاً على نطاق واسع”.
العد التنازلي
ومن اللافت في هذا الشأن أن زعماء بلدان غرب أوروبا وخصوصاً المحورية منها، ممن كانت أوكرانيا ولا تزال، تعلق عليهم الكثير من آمالها في محاولات حل الأزمة الأوكرانية، غابوا عن “منصة القرم”، وإن حضرها زعماء بلدان شرق أوروبا ممن تتباين علاقاتها مع روسيا، بقدر تباين مواقفها من كل من أوكرانيا وروسيا. أما عما أعرب عنه فلاديمير زيلينسكي من آمال في اقتراب التوصل إلى الحل المنشود، بقوله “إن العد التنازلي لعودة شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا قد بدأ”، فإنه يظل وبحسب تقديرات مراقبين في العاصمة الروسية، أملاً بعيد المنال. فذلك يصطدم إلى جانب ما يعتريه من تناقضات مع تاريخ المنطقة، بما جرى إدخاله من تعديلات دستورية، لقيت ما يشبه الإجماع من جانب مواطني روسيا الاتحادية في الاستفتاء الشعبي الذي أجرته روسيا في يونيو (حزيران) من العام الماضي. وتقضي هذه التعديلات ضمن ما تقضي، بحظر بحث أو مناقشة أية قضايا تمس وحدة أراضي وسيادة روسيا، وهو ما يعني ضمناً حظر مناقشة أية قضايا تتعلق بالنيل من قدسية وشرعية حدود الدولة الروسية، واعتبار شبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من أراضي روسيا الاتحادية. وذلك أمر ينسحب أيضاً على كل الأراضي المتنازع عليها حسب تقديرات بلدان أجنبية، ومنها اليابان التي تتنازع ملكية “جزر كوريل”، التي ضمها الاتحاد السوفياتي بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية.
وكان زيلينسكي أعرب عن ثقته بأن تكون “منصة القرم” مقدمة عملية لإنشاء “ائتلاف دولي قوي لتحرير القرم من الاحتلال الروسي”، على حد تعبيره، ما قد يكون تفسيراً لما قاله الرئيس بوتين حول أن زيلينسكي يكاد يكون قد أوكل مشاكل البلاد إلى قوى خارجية، الأمر الذي يعني ترحيل هذه المشاكل، بحثاً عن حلول لها في واشنطن بالدرجة الأولى، وإلى باريس وبرلين بدرجة أقل. ونقلت الوكالات الروسية عن بوتين ما وصف به نتائج عمل القيادة الأوكرانية التي قال إنها “مدمرة”، إلى جانب إشارته إلى ملاحقتها واضطهادها المعارضة، فضلاً عن مواقفها من روسيا التي وصفها بأنها “غير ودية بشكل واضح”.
“ائتلاف دولي قوي”
غير أنه من اللافت في هذا الصدد ذلك الموقف الذي بدا فيه وزير الخارجية التركية، مولود جاويش أوغلو، أكثر حمية وحدة في عدائه لروسيا وقيادتها، في الوقت الذي أعرب فيه عن ثقته بأن تؤسس “منصة القرم” لإنشاء “ائتلاف دولي قوي لتحرير القرم من الاحتلال الروسي”، حسب تعبيره. وقال الوزير التركي “إن بلاده تدعم بشدة وحدة الأراضي الأوكرانية، وتدعو المجتمع الدولي إلى توحيد الكلمة ضد ضم روسيا شبه جزيرة القرم”، معرباً عن أمله في “أن تكون منصة القرم بمثابة منتدى فعال لإظهار تضامن الدول المشاركة”.
وذلك ما وجد رداً عليه فيما قاله سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، حول أنه يود أن يقول “إننا على علم بالأساليب المستخدمة لإجبار الحلفاء على الانضمام إلى مثل هذه المبادرات التي لا مغزى لها، لذا فلا عجب لنا من أن الشعور الخاطئ بالتضامن بين دول الاتحاد الأوروبي وأعضاء الناتو، هو الذي جاء أساساً لهذه المبادرة الدعائية الفارغة تماماً التي لا مستقبل لها إطلاقاً”. ومضى لافروف يقول إن “منصة القرم” مبادرة معادية لروسيا بشكل واضح، واصطُنعت من أجل تغذية المشاعر القومية المتطرفة في أوكرانيا، وهي مشاعر “تشجعها السلطات في كييف، وزعماء العالم الغربي على حد سواء”.
غير أن كثيراً من شواهد الحاضر وقرائن الأمسين القريب منهما والبعيد، تقول إن قضية القرم جاءت لتغذي الكثير من مشاعر العداء وتصفية الحسابات لدى خصوم روسيا في الجوار القريب، إضافة إلى الخصوم التاريخيين ممن يواصلون محاولات اللعب على أوتار التناقضات الجيوسياسية، التي تتزايد حدتها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، بقدر تصاعد نهم الأوساط الغربية نحو التهام المزيد من المكاسب في الفضاء السوفياتي السابق. وكان الرئيس بوتين سبق وأشار في معرض تعليقه على جنوح بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي و”الناتو”، إلى ما اعترى انفصال هذه الجمهوريات وخروجها من الاتحاد السوفياتي من عوار. وشرح هذا بقوله إن روسيا كانت تنازلت عن مساحات من أراضيها “كهدايا” إلى بعض الجمهوريات، وإنه يجب على هذه الجمهوريات في حال خروجها من الاتحاد أن تترك ما حصلت عليه من هدايا. وذلك ينسحب على أوكرانيا التي سبق وأهداها فلاديمير لينين زعيم ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية عام 1917 منطقة الدونباس في جنوب شرق أوكرانيا، كمحاولة لدعم الطبقة العاملة في أوكرانيا، إضافة إلى شبه جزيرة القرم التي فاجأ الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف رفاقه في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي (الأوكراني الأصل) بفكرة تحويل تبعيتها الإدارية من روسيا الاتحادية إلى أوكرانيا، وإحالة الأمر إلى السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية للتصديق عليه. وفيما قالوا إن القرار الذي اتخذه الأمين الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي خروشوف، كان هديته إلى الشعب الأوكراني بمناسبة الذكرى الـ300 لانضمام أوكرانيا طواعية إلى الإمبراطورية الروسية، أشارت هيئة رئاسة السوفيات الأعلى في مبررات مرسومها بتحويل تبعية القرم من روسيا الاتحادية إلى أوكرانيا، إلى أن القرار اقتضته “ضرورات الوحدة الاقتصادية والقرب الجغرافي، والعلاقات المعيشية والثقافية الوثيقة بين الإقليم وجمهورية أوكرانيا السوفياتية الاشتراكية”.
الاستفتاء الشعبي
وكان الرئيس بوتين استعاد بعضاً من تطورات عملية ضم القرم في مارس (آذار) 2014 في تصريحاته إلى التلفزيون الروسي بقوله، إن مقتضيات الأحداث بعد ما وصفه بانقلاب فبراير (شباط) 2014 الذي أطاح الرئيس الشرعي فيكتور يانوكوفيتش، فرضت ضرورة استباق “الناتو” واستعادة كامل السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم وميناء سيفاستوبول، القاعدة الرئيسة التاريخية لأسطول البحر الأسود. ومن اللافت في هذا الصدد أن بوتين حرص على تبرير قراره بما أسفرت عنه نتائج الاستفتاء الشعبي حول انفصال القرم عن أوكرانيا، ورغبة الأغلبية الساحقة من سكانها العودة إلى الوطن الأم على اعتبار أن شبه جزيرة القرم كانت جزءاً من أراضي الإمبراطورية الروسية منذ نجاح قواتها المسلحة في ضمها بعد عدد من الحروب الضروس مع الإمبراطورية العثمانية منذ القرن الخامس عشر، وحتى انتصار القوات الروسية واستيلائها على شبه الجزيرة، فيما سميت بحرب القرم 1768-1774، وما أعقبها من جهود الإمبراطورة يكاتيرينا الثانية التي أعلنت ضم القرم نهائياً إلى روسيا مع نهاية القرن الثامن عشر. وكانت شبه جزيرة القرم عادت لتسقط في شرك النزاعات والحروب، ومنها ما جرى مع نهاية سنوات الحرب العالمية الأولى، وحتى بسط البلاشفة سلطتهم عليها مع حلول عام 1921. وفي 18 أكتوبر 1921، جرى إعلان تأسيس “جمهورية القرم الاشتراكية السوفياتية ذات الحكم الذاتي” في إطار حدود شبه الجزيرة التابعة لجمهورية روسيا الاتحادية بأغلبية سكانية روسية، تليها من حيث التعداد، القومية التتارية ثم الأوكرانية ثم التركية واليونانية والبلغارية والألمانية والأرمينية.
وتقول المصادر التاريخية الروسية إن أبناء القرم وفي مقدمتهم الغالبية الناطقة بالروسية، طالما رفضوا أكثر من مرة واقع ضم شبه الجزيرة إلى أوكرانيا، من خلال تكرار محاولات استعادة وضعيتهم الدستورية السابقة في إطار “جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي”. وفي 12 فبراير 1991 وبموجب نتائج الاستفتاء الشعبي الذي أجري آنذاك، تحولت “مقاطعة القرم” إلى “جمهورية القرم الاشتراكية السوفياتية ذات الحكم الذاتي”. وفي أول أكتوبر من العام نفسه، أصدرت هيئة رئاسة السوفيات الأعلى للقرم بياناً، وصفت فيه عملية تحويل تبعية القرم إلى أوكرانيا في عام 1954 بأنه إجراء جرى اتخاذه “من دون مراعاة رأي الشعب”. وإذ أشار البيان إلى أنه وفي ظل الظروف الراهنة فإن “القرم لا ترى مبرراً لطرح موضوع إعادة النظر بشأن ترسيم الحدود”، دعا إلى احترام حق أبناء القرم في بناء شكل دولتهم على أساس استفتاء، إذا ما تطلب تغيير الأوضاع السياسية ذلك”. وفي 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1991، تقدم برلمان القرم إلى ميخائيل غورباتشوف رئيس الاتحاد السوفياتي آنذاك، بطلب إلغاء مرسوم هيئة رئاسة السوفيات الأعلى للاتحاد السوفياتي الصادر في عام 1954 حول نقل تبعية القرم إلى أوكرانيا، إلا أن أحداً لم ينظر آنذاك في هذا الطلب أو يأخذ به.
مؤامرة “بيلوفجسكويه بوشا”
وتلك كلها أسانيد تاريخية ثمة من يقول إنها “تتداعى”، تحت وقع متغيرات ذلك الزمان، ومنها ما يتعلق بانهيار الاتحاد السوفياتي، وما سبقه من مؤامرات استهدفت التخلص من ميخائيل غورباتشوف، ومنها مؤامرة “بيلوفجسكويه بوشا” في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1991، التي شارك فيها رؤساء روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا (حالياً بيلاروس)، وما أعقبها من مداولات بين الرئيس الروسي بوريس يلتسين ونظيره الأوكراني ليونيد كرافتشوك، لتسوية العلاقات بين البلدين، وهو ما يظل الغموض يكتنف الكثير من تفاصيلها، وإن يظل الواضح والمؤكد فيما ينص عليه الدستور الروسي من حظر لبحث مشروعية أية أراضٍ داخل حدود الدولة الروسية، من دون نسيان ما سبق واعترف به الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما حول أن البيت الأبيض أقر تخصيص ما يقرب من خمسة مليارات دولار، لتميل الثورة البرتقالية وتداعياتها في أوكرانيا.
المصدر: اندبندنت عربية