النظام السوري، في زمن الأسد الأب(حافظ) والأسد الأبن(بشار)، زج بمئات السياسيين والمثقفين والحقوقيين المعارضين في السجون، وفصل الآلاف من وظائفهم الحكومية، بأحكام جائرة على خلفية “تهم سياسية” جاهزة ومفبركة، تكشف مهزلة القضاء والمحاكم السورية التي تأتمر بأوامر الأجهزة والدوائر الأمنية. من هذه التهم (وهن نفسية الأمة، النيل من هيبة الدولة، العمالة للخارج، إثارة النعرات والفتن الطائفية، الانفصال..). تهمة “الانفصال” خص بها السياسيين والناشطين الأكراد. حيث يتهمهم باقتطاع جزء من أراضي الدولة السورية وضمها إلى دولة أخرى “كردية ” غير موجودة أصلاً. فالأكراد، رغم أن حلم الدولة يراودهم منذ زمن بعيد، لم يقيموا دولة كردية ولم يظهروا على الخريطة السياسية للعالم القديم أو الحديث. أول محاولة للأكراد لتأسيس كيان كردي، كانت عام 1949 في مدينة مهاباد الإيرانية، حيث موطنهم التاريخي.
مع تفجر الأزمة السورية عام 2011 وإعلان “الإدارة الذاتية ” الكردية في المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد، لم يعد توجيه تهمة “الانفصال” للأحزاب الكردية يقتصر على النظام السوري، وإنما بدأت بعض شخصيات وأطراف المعارضة، تنعت الأكراد القائمين على الإدارة الذاتية والمناصرين لها بـ”الانفصاليين”. ليس تبريراً أو ترويجاً لتهمة “الانفصال” بحق الأكراد السوريين، وليس دفاعاً عمّن يروج لها، أرى أن الحركة الكردية، تتحمل قسطاً من المسؤولية عن إلصاق تهمة “الانفصال” بالنضال الكردي.
تأكيد الأكراد على ” تمسكهم بوحدة سوريا ” غير كاف لإبعاد تهمة الانفصال عنهم، وخطابهم القومي متمحور بشكل أساسي حول ما يدعونه بـ”البعد الكردستاني” لقضيتهم، من غير أن يكون لديهم سبب سياسي/قانوني أو سند تاريخي لهكذا ادعاء.
إنهم (الأكراد) متحدرون من أصول فارسية/إيرانية، استفادوا كثيراً من اعتناقهم للإسلام، بالتمدد في الجغرافيا خارج مناطقهم التاريخية في بلاد فارس والوصول إلى سوريا وبلاد ما بين النهرين(العراق) وأرمينيا، على حساب سكان هذه المناطق، خاصة إبان حكم (السلطنة العثمانية)، التي نفذت أبشع جريمة إبادة جماعية بحق المسيحيين الخاضعين لسلطتها، من أرمن وسريان آشوريين ويونان 1915، بمشاركة كردية واسعة.
في ضوء هذه الحقائق التاريخية، التي يتجاهلها ساسة الكورد ومثقفوهم، إطلاق اسم “كردستان الكبرى ” على كامل الجغرافيا التي ينتشر فيها الأكراد اليوم في دول المنطقة، ينطوي على مغالطات، سياسية وتاريخية، يحمل (نزعة عنصرية) تجاه شعوب وأقوام أخرى وجودها في ذات المنطقة يسبق الوجود الكردي بآلاف السنين، باعتراف باحثين ومؤرخين أكراد. الباحث الكردي العراقي المتخصص بتاريخ شعوب الشرق الأوسط من جامعة السوربون الدكتور (عمر ميران) يقول: “المنطقة التي يسمونها، كردستان، كلما ذُكرت أمامي وأنا ابن تلك المنطقة، أشعر بالاشمئزاز لما تحمله هذه التسمية من عنصريه بغيضه. هذا الاسم يلغي الوجود الفعلي للكثير من القوميات المتواجدة فيها، من آشوريين وإيزيديين وعرب وتركمان وغيرهم. إنهم يريدون أن يُفهموا العالم بأن الأكراد كانوا أصحاب حضارة وعلم، وكل هذا غير وارد تاريخياً، وليس له أي إثبات علمي. علما أن معالم الحضارة الآشورية، الموجودة في نفس المنطقة، ماتزال قائمه هناك”.
مسؤولية القوميين الكورد عن نعتهم بـ” الانفصاليين” تأتي من ادعائهم بأن قضية الأكراد السوريين هي قضية “أرض وشعب” وتسمية المناطق السورية التي يسكنها الأكراد بـ”كردستان سوريا – روج آفا ” وضمها إلى خريطة ما تسمى بـ ” كردستان الكبرى”، ورفع سقف مطالبهم إلى “الحكم الذاتي- الفدرالية”، والسعي لفرض رؤيتهم وأيديولوجيتهم على بقية المكونات والأقوام السورية، التي تشارك الأكراد العيش في منطقة الجزيرة (شرق الفرات) ذات الغالبية العربية. الشكوك بوجود ” تطلعات انفصالية ” لدى أكراد سوريا، تعززت بإعلان “الإدارة الذاتية ” للمناطق الخاضعة لسيطرة قوات حزب الاتحاد الديمقراطي. فقد باتت هذه الإدارة أشبه بـ”دويلة كردية ” داخل الدولة السورية، لها “جيش وحدود ومعابر ودستور وعلم واقتصاد وتعليم وعلاقات دبلوماسية مع الخارج”، على أمل أن تمتد إلى البحر المتوسط، وكسب الاعتراف الدولي بها. بنظر الكثير من المراقبين والمتابعين للشأن الكردي، أن أكراد سوريا، رغم الاختلاف الكبير بين الحالة العراقية والحالة السورية، يسعون إلى استنساخ تجربة أشقائهم أكراد العراق، الذين استغلوا الأزمة العراقية إبان الاحتلال الأمريكي 2003 وإسقاط حكم صدام حسين، في تحويل العراق إلى (دولة فدرالية) من إقليم عربي وآخر كردي “كردستان العراق”، وقد استفتوا على الانفصال عام 2017.
لا أحد من السوريين المعنيين بالتغير الديمقراطي، يختلف مع الإخوة الكورد على أن ثمة ضرورة وطنية للتخلص من نظام دكتاتوري، شديد المركزية، يحكم سوريا منذ عقود طويلة، مارس كل أشكال الاستبداد والقمع والاضطهاد والحرمان بحق جميع السوريين، أفقر سكان الجزيرة وهي أغنى المناطق السورية بالثروة النفطية والزراعية والحيوانية، دفع بالبلاد إلى حرب كارثية مدمرة. الخلاف، هو حول شكل النظام السياسي والإداري المناسب لسوريا الجديدة. العديد من القوى الوطنية، الطامحة للتغير والانتقال بسوريا إلى دولة مدنية ديمقراطية تعددية، بدأت تطرح خيار (اللامركزية الإدارية) على أساس (الأقاليم الجغرافية – المحافظات)، كصيغة مناسبة للحالة السورية.
لا مركزية إدارية، بنظام وطني ديمقراطي، يرتكز على مبدأ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات لجميع السوريين، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الدين أو الانتماء السياسي، يكفل الحقوق الثقافية واللغوية للأكراد والسريان الآشوريين والأرمن والتركمان وغيرهم. قوى التغير الوطني الديمقراطي، لا تخفي رفضها للامركزية السياسية أو “الفدرالية” التي تطالب بها القوى الكردية. لأن التجارب التاريخية، القريبة والبعيدة، للشعوب الأخرى أثبتت بأن “الإدارات الذاتية أو فدراليات” الأمر الواقع على أسس (عرقية، طائفية، مذهبية)، تحت ضغط التدخلات الخارجية والخارجة عن الإجماع الوطني، ستتحول إلى “كانتونات معزولة”، تنتهي إلى تقسيم وتفتيت البلاد.
المصدر: الناس نيوز