يسعى العديد من الأخوة إلى عقد “مؤتمر وطني سوري” في بحثهم عن إطار سياسي يشكل مرجعية للعمل الوطني تستأثر بما تبقى من زخم النضال على مدار السنوات التسع الماضية ضد عصابات الأسد والمليشيات الطائفية التي عملت معه، بعد أن تساقطت الشرعية الوطنية عن الهياكل التي تصدرت الثورة خلال السنوات الماضية بدعوى حيازتها على إجماع ثوار الداخل والإعتراف من قبل ما سمي “أصدقاء الشعب السوري”.
تعددت المبادرات ممن تصدروا العمل السياسي أو العسكري خلال السنوات الماضية، ومعظم هذه المبادرات تسعى لرفع شعار “المؤتمر الوطني السوري” وتضاف عادة إلى هذا التعبير كلمة أخرى في نهايته، رغبة في المزيدٍ من التوصيف، مثل كلمة “العام” أو “الجامع” أو “الثوري”، وهي مفرداتٌ لا تضيف شيئاً من ناحية الجوهر، إذ إن هكذا مؤتمر يجب أن يكون معنيٌّ بأغلبية السوريين في الحد الأدنى، حيث لا يمكن لمؤتمر يحمل الصفة الوطنية أن يُستثنى منه أي جهة أو تيار، وإلا كفَّ عن كونه مؤتمراً وطنياً، وينبغي في الدعوة إليه التصريح بهذا على أقل تقدير، كما وينبغي أيضاً التصريح باستبعاد المتورّطين في القتل والفساد، خصوصاً عصابات الأسد وأركان حكمه.
إن هكذا مبادرة تحتاج إلى اختيار لحظة ملائمة للإعلان عنها، بحيث تضمن وجود توافق دولي، ونضج الحوار الداخلي في المجتمع المعني إلى درجةٍ توحي بالاتفاق على تغيير نظام الحكم، ما يعني أن لحظة عقد “المؤتمر الوطني” ينبغي أن تكون فاصلة بين وضعين أو حالين مختلفين نوعياً. إذا أن هكذا مؤتمر يفترض أن ينتج بعده حالة نوعية مغايرة لما قبلها، وإنْ لم يتمخض تغيير حقيقي، فإنه لن يكون قد أحدث أثراً فعالاً سوى تسفيه هذا المصطلح المتبقي أو قتله، مثل سائر المصطلحات والتعابير السياسية التي تعرّضت للابتذال والتسفيه والإفراغ من مضمونها خلال السنوات الماضية.
لذلك، فإنه يجب اعتبار عقد “المؤتمر الوطني السوري” هدفٌ أكثر من كونه وسيلة، وللوصول إلى هذا الهدف يجب تحقيق عوامل نجاحه الموضوعية والذاتية، فالمؤتمر “تتويج” لعمل أساسي وضروري ينبغي القيام به، وليس إنشاء “مؤسسة” عليها عبء صناعة عوامل نجاح العمل الوطني التي تنقصنا، أي ليس وسيلة يمكن من خلالها بناء كل ما قصّرنا في بنائه طوال السنوات الماضية. وبالتالي فعند توفر الشروط الأساسية، موضوعياً وذاتياً، يصبح في الإمكان عقد المؤتمر الوطني السوري، ويكون عندها بمنزلة الوسيلة التي تعمل على استكمال شروط إعادة بناء الدولة والمجتمع في سورية.
نجاح أي مؤتمر هو في التحضير الجيد له قبل عقده، وبالتالي إنجاز خطة عمل واضحة ومحدَّدة، التي يمكن أن تنبثق منه بعد عقد هذا المؤتمر، أما لحظة عقد المؤتمر فوظيفتها فقط الإعلان والإشهار لهذا الإنجاز. ولا يفترض كما جرت العادة تضخيم لحظة عقد المؤتمر والاحتفاء بها، ومناقشة المسائل كلها دفعة واحدة في أثناء اللقاء، بصورة سريعة لايتمخض عنها سوى كلام عام يفهمه كل من الحاضرين بطريقته، مما يجعل الخلافات بعد المؤتمر أمراً بديهياً ومتوقعاً، ومن ثم الانحلال والتشظّي بحكم عدم وجود آلية تنظيمية واضحة لحل الخلافات.
من هنا فإنه يفترض بدل السعي إلى عقد “المؤتمر الوطني السوري”، يتوجب التركيز على المهمات الأولية الضرورية لنجاحه، وعدم التقاعس عن إنجاز الأعمال الضرورية المتراكمة طوال السنوات الماضية، من خلال عقد لقاءات تشاورية وحوارية بنّاءة، وبناء تشكيلات سياسية وثقافية واقتصادية متماسكة وناجحة، كخطواتٍ على طريق عقد “المؤتمر الوطني السوري”. فنحن أمام مهمةٍ نوعيةٍ، ينبغي أن يتمخض عنها ولادة جديدة لسورية، وينبغي أن يكون ما بعده ليس كما قبله.
بالتالي يفترض بالنخب الوطنية بداية العمل على تشكيل تيار وطني ديمقراطي يعمل على صياغة رؤية مشتركة لسورية المستقبل تؤمن استعادة القرار الوطني والسيادة على كامل تراب الوطن والأخذ بالاعتبار البيئةٍ الإقليميةٍ والدوليةٍ المعقدة. مع ضرورة الاتفاق على مضامين المفاهيم ومدلولاتها، والعمل على وضع معايير واضحة ومحدَّدة لمن يمكن أن يعتبر “شخصيات وطنية أو عامة”، تكون في مرحلة قادمة ركائز المؤتمر الوطني السوري بعد إنضاج الشروط الموضوعية والذاتية لانعقاده.
المصدر: اشراق