يطرح الحدث الأفغاني أسئلة داهمة تتعلق بالقيم الغربية التي قامت عليها منظومة دولية ولّدتها نتائج الحرب العالمية الثانية وأكد وجاهتها انهيار الاتحاد السوفياتي واندثار الحرب الباردة. بات هذا الغرب أكثر ثقة وأشدّ غروراً في طرح نموذجه في السياسة والثقافة والايديولوجيا على دول العالم كافة. بات أيضاً أكثر عدائية في فرض انهيار نماذج الآخرين النافرة سواء حصل ذلك في يوغوسلافيا السابقة في نهاية التسعينات أم لاحقاً في أفغانستان والعراق وليبيا.
في حقبة الحملات الاستعمارية جرى تسويق نصوص ونظريات فلسفية إنسانوية تدعو إلى نقل الحضارة والتمدن إلى الأمم الأخرى. بعض هذه الدعوات جاء متناسلاً أو مصاحباً لحركة الكنائس في التبشير وتوسيع الفضاء الديني باتجاه بلدان يتم إخضاعها بقوة السلاح والترويج للأمر بصفته رسالة حضارية أو تحررية أو إيمانية. وفق ذلك قام الغرب بتصدير نفسه صاحب رسالة زيّنت له أن يكون (مستعمراً) وصيّاً على مصير الآخرين.
قضت الحرب العالمية الثانية على النازية بصفتها سلوكاً ومنهجاً مفرطاً نما على ضفاف المهام التبشيرية للكنيسة والنزوع نحو تكريس هيمنة الغرب بنسخة مفرطة بصفته عرقاً متفوقاً، مهما كانت القيم التي يحملها. وبدا أن شرعية الوجود الغربي، القائم على جثة “الفوهرور” وعقائده، احتاجت إلى استيلاد معنى وجد في الديموقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان قواعد تبرر وجاهة النصر. وباتجاه الهدف السامي جرى الترويج للديموقراطية المتأسسة على شعارات المساواة والمواطنة والحرية التي رفعتها الثورة الفرنسية (1789-1799).
لم تدم النشوة الغربية ما بعد الحرب العالمية الثانية طويلاً. كسرت الحرب الكورية (1950-1953) وحدة المنتصرين. وكان قبل ذلك قد أُسدل على العالم “ستار حديدي” وفق تعبير ونستون تشيرشل في آذار (مارس) 1946. بات للغرب شرق يعانده وبات للقيم الغربية المزدهرة منافس ينهل زاده من الماركسية والأدب الإنسانوي الثوري القديم الجديد. قامت الحرب الباردة وتناطحت قيم الغرب والشرق الشيوعي والدوائر الثورية التابعة والمحيطة، بحيث انقسم الكوكب في الفكر والقوة والسلطة والثروة.
كم شعر فرانسيس فوكوياما -في مؤلفه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” عام 1992- بالضجر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأفول الحرب الباردة. صار من حقّ كونداليسا رايس أن تعيد عام 2005 نبش مفهوم “الفوضى الخلاقة” العتيق كحاجة ضرورية لإيجاد أسواق جاذبة لقيم الحضارة الغربية. صحيح أن صموئيل هنتغتون كان خفّف من غرور فوكوياما مستشرفاً عام 1996 “صراع الحضارات”، بيد أن الغرب بقي متمسكاً بقيمه، منتشياً بها، معوّلاً على تصديرها كمنتجات كونية يمكن استهلاكها في أي زمان ومكان.
من شهد حدث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بدا له أن نبوءة هنتغتون قد تحققت وأن ذهاب الغرب لإسقاط “الشرّ” في أفغانستان ثم لاحقاً في العراق (وليبيا) وإقامة “ممالك الخير” هو دليل على أن الصدام حقيقي متوقع، ومواجهته ممنهجة تمتلك قوة الحجّة والعقل وجداراً من القيم التي لا منافس لها. ومن شهد سقوط كابول في يد حركة “طالبان” قبل أيام لن يجد في دموع وزير الدفاع البريطاني، ولا في تلعثم وزير الخارجية الأميركي، ولا في ارتباك باريس وبرلين وبقية العواصم الغربية، ما بإمكانه فكّ طلاسم تلك الهزيمة التي أطاحت رصيداً راكمه هذا الغرب يوماً بعد يوم.
وإذا ما أهملنا أمثلة الفشل الغربي في معالجة أزمات كبرى كما تلك في العراق وسوريا وليبيا (من دون التطرق إلى بلدان أخرى وملفات المناخ والمال والاقتصاد والجائحة)، فإن أفغانستان بالذات تمثّل حالة صارخة مكثّفة لهذا الفشل وتلك الهزيمة. أخضع الغرب أفغانستان على أرضية تفوّق فوكويامي وفكّك منظومة حكم “طالبان” وفرض أجندته على “اللويا جيرغا” القبائلية. كان أمام هذا الغرب فضاء فسيح وأرض بور لزراعة بذوره لإعادة بناء مجتمع، وتحديث هياكل السلطة، وتقويم قواعد ثقافية، وفرض الحداثة باطاراتها المختلفة في التعليم والإعلام والفنون وفروعها، وتعميم الديموقراطية منهجاً وطريقة عيش. غير أن حركة “طالبان” اتكأت على مجموعة البشتون القبلية (أكبر قبائل أفغانستان) وأعادت إنتاج نفسها مخترقة المجموعات العرقية الأخرى (مثل الطاجيك والأوزبك والتركمان)، واستفادت من تشقق ما ينتجه العصر الغربي في البلد من أعراض جانبية كانت تُضخّم من أورام التبرّم من حداثة يتربى في ثناياها نقيضها من محسوبيات وفساد ومافيات مصالح.
تتحمل أفغانستان مسؤولية الفشل في استثمار الفرصة التاريخية للقفز نحو الدولة بمعناها الحديث. وهذا حديث آخر. لكن الغرب في هزيمته الأفغانية خسر رصيده في التبشير بقيمه الكونية بصفتها حقّاً إنسانياً يجوز وفقه محاسبة موسكو ولوم بكين ومعاقبة هذه الدولة أو تلك. والحدث يمثّل هزيمة عسكرية، لكنه يمثل أيضاً انهياراً فكرياً يعجز كثير من فلاسفة هذا العصر عن اجتراح تفسيرات له. وحده المفكر الروسي الكسندر دوغين لا يستبعد أن يكون الحدث مقدمة لانهيار المنظومة الغربية على منوال ما حصل للمنظومة الاشتراكية.
ينهار الغرب أمام ميليشيا قبلية متواضعة العدد والعدّة، ولا تحمل في جعبتها إلا الترويج إلى إسلام بدائي أقل تعقيداً وجرأة مما كان يقترحه الإسلام السياسي التقليدي ودوائره الجهادية التابعة. وتلملم الديموقراطية الغربية خيبتها مهزومة مندحرة حائرة أمام من يحلم بإقامة “إمارة” ويمنن العالم والأفغان أنه، بعد مراجعة عمرها عقدين، لن يمنع تعليم البنات.
قد يقول قائل إنه كان من السذاجة الإيمان بالخطاب التبشيري الحضاري الذي حمله الغرب المستعمِر سابقاً والغرب الحديث لاحقاً. وإن أسقطنا الوعاء القيمي لمسعى الغرب لسيادة العالم، فماذا تبقى له هذه الأيام للبيع في أسواق العلاقات الدولية ومناوراته بين شرق وغرب وجنوب وشمال. بدا أن الميليشيات تتعملق أمام الجيوش الكبرى. وبدا أن دولة عظمى كالولايات المتحدة تنظم انسحابها من بلد بالتفاوض مع الجماعات المتمردة وليس مع حكومة البلد الشرعية. وبدا أن رئيس الحكومة البريطاني يكاد يناشد العالم ألا يعترف بحكومة “طالبان” فتنتصر القبيلة على الدولة.
في أعمال البروفسور Sumit Guha في الولايات المتحدة قراءة جديدة لديناميات القبيلة في آسيا وحداثة أدواتها في مواجهة الدولة. يسخر الرجل من تخلّف تقييم الغرب لموقع القبيلة وحركيتها وبالتالي قدراتها على إسقاط الدولة أو الالتفاف عليها. تقفز هذه الحقيقة في وجه هذا الغرب بحيث يبدو وزير الدفاع البريطاني بن والاس غير مستوعب للصدمة فيتهدج صوته ولا يستطيع حبس دموعه. قال إنه “فشل للمجتمع الدولي (…) إنه أمر محزن… والغرب فعل ما فعله”. وفي الجدل الذي يستعرّ في واشنطن كما ذلك الذي يستدعي اجتماع البرلمانات في لندن وباريس وعواصم غربية أخرى، ما يُسلط المجهر على تحوّل غربي، له ما بعده، تفرضه اللحظة الأفغانية الموجعة.
ربما قد تتقوّض منظومات القيم، لكن الثابت أن منظومة المصالح هي التي تسطو على العالم هذه الأيام. فيتنام – أفغانستان. أين كانت فيتنام وأين أصبحت على الخريطة الدولية؟ وأين هي أفغانستان اليوم وأين ستصبح على الرقعة الكبرى غداً؟
المصدر: النهار العربي