مجدداً، الأزمة في لبنان أكثر تعقيداً من أن تحلّها هذه الطبقة السياسية برموزها المختلفة والمتّفقة في آن واحد. لو كانت قادرة على فعل شيء لفعلته. ليس منصفاً القول إنها لا تريد بالمطلق. هي تريد لكنها عاجزة، عاجزة موضوعياً وعاجزة شخصياً. بل لعلها باتت أسيرة ما جنته أيديها وأفكارها واعتقاداتها وممارساتها وارتباطاتها وأهواؤها وولعها الشديد بمراكمة الثروات والممتلكات في لبنان والخارج في أسرع وقت ممكن.
ما هذا الافتتان الذي لا ضوابط له بالمال؟ هل من الصدف أن يكون معظمهم أثرياء أو مشاريع أثرياء؟ هل هو أمر طبيعي أن تملك عائلاتهم فجأة مؤسسات من كل الأصناف؟ إنهم موجودون في المصارف، وفي المصانع، وفي شركات النفط، وفي محطات الوقود، وفي تجارة الأدوية، وفي تربية الأبقار، وفي بساتين الخضر والفواكه، وفي مولدات الكهرباء، وفي تجارة الهواتف الذكية منها والغشيمة، وفي الفنادق والمطاعم والمراقص، وفي الكسارات والمرامل… وحتى في مخابئ البنزين والمازوت الحرام… عدا العقارات المبنية ناطحات سحاب وشققاً للتجارة والأراضي الزراعية والبور في السهول والجبال وفي كل مكان. كثر منهم لا يعرفون أين تقع الأراضي التي يشتريها لهم “كشافوهم” ومقتنصو الفرص من سماسرة ونصابين.
ليس السياسيون وحدهم كذلك، لبنان هو بلد الأثرياء رغم الحالة المأسوية التي تعيشها حالياً الغالبية الساحقة من أهله. مليارديرات معروفون وغير معروفين، مليونيرات بالمئات، بل بالآلاف، ثروات مكدسة في المنازل والمصارف المحلية والأوروبية.
قبل أن يضربهم الانهيار كان اللبنانيون غالباً مصابين بلوثة الإثراء السريع. صار الفقر عيباً، وتحت شعار الطموح اعتُبرت كل الوسائل مباحة لتحصيل الثروة. لا جدال في أن تحقيق الثروة حق مشروع لكل الناس، لكن المشكلة اللبنانية أن تحقيق الثروة لم يسلك الطرق الطبيعية والأخلاقية المعروفة. لقد أنتج التسابق على الثروة شرائح وطبقات طفيلية لا يمكن إدراجها في خانات الفئات التقليدية. لم يعد معروفاً من هو التاجر ومن هو المهرّب ومن هو الصّناعي ومن هو السمسار.
لقد أنتجت السنوات الثلاثون من الرخاء المزيّف والارتخاء المرضيّ في مفاصل الدولة ومؤسساتها، والفساد السياسي وارتفاع منسوبات الزبائنية السياسية والمحاصصة الطائفية، حالة من التّكالب على نهب الدولة أولاً، وعلى نهب الشعب بعضه بعضاً تالياً. سقطت المحرّمات كلياً وسقطت معها القيم الاجتماعية، وانهارت مؤسسات الرقابة بفعل “الرقابة” السياسية الخانقة عليها. لقد أسقطت الطبقة السياسية الدولة بالضربات المتلاحقة، فتناتش الشعب جثتها. لم يكن قسم كبير من الشعب إلا تابعاً وزبوناً عند السياسيين، يتملّقهم ويضرب بسيفهم ويستفيد من فتاتهم وظائف وامتيازات ورخص كسارات ومرامل ومحطات وقود وحمايات أمنية وقضائية…
قضت المنظومة السياسية على كل أمل بالإصلاح عندما طيّفت كل شيء وسيّسته. طردت الكفاءات إما الى الخارج وإما الى الأعمال الهامشية، وأباحت النهب وكافأت الناهبين والعاجزين فوزّرتهم ورقّتهم وسلّمتهم مقاليد الإدارات والمؤسسات التي ما لبثت أن انهارت دفعة واحدة تحت وطاة الفشل المتمادي والقصور الأخلاقي والمهني. كأن السياسيين كانوا يتباهون بمن يغرف أكثر من قدرة الدولة ومن هيبتها لمصلحة الطائفة والحزب والجماعة.
في لبنان الجائع اليوم والمنهك حتى الإعياء، امّحت الطبقة الوسطى وانضمّت الى أختها الفقيرة، لكن طبقة الأثرياء ما زالت موجودة، وهي تضم معظم الأثرياء التقليديين من أصحاب الوكالات الحصرية وكبار التجار وأصحاب الشركات الكبرى، من تجار النفط والغاز والمواد الغذائية والمهرّبين والمستفيدين، من كبار الموظفين وحملة الأختام وأصحاب التواقيع وغيرهم من الفاسدين المتغلغلين في الإدارات ومراكز القرار الحساسة.
طبقة الـ4 في المئة ربما تكون قد توسّعت قليلاً، لكن لبنان سقط الى زمن سحيق. الى هوّة عميقة جداً. لم يكن الفقر عيباً عندما كانت هناك أخلاق وقيم. أصبح الفقر عيباً فسقطت الأخلاق والقيم. والأخطر سقط الانتماء الوطني. أصبح الانتماء للمال، وإلا كيف يفسّر ترحيل الثروات الى الخارج؟ مليارات الدولارات هرّبها السياسيون والمصارف والأثرياء الجدد، وحتى أصحاب الثروات الصغيرة والمتوسّطة.
المال أولاً. قبل الوطن وقبل الدّين حتى. هذا سبب من أسباب الانهيار السريع.
المصدر: النهار العربي