أنت أكثر تحررًا بعد أن تخففت من التزاماتك الدينية.. ربما.. ولكن تمهل قليلًا. لعبت العديد من العوامل والمستجدات دورًا مهمًا في إبعاد الكثير من الشباب وأحيانًا الكهول – وخاصة المهاجرين إلى أوروبا – عن الدين وفك ارتباطهم به جزئيًا أو كليًا، اعتقادًا أو سلوكًا. ولا بأس من سرد سريع لأهم تلك العوامل على مستوى الأمة عمومًا وعلى مستوى الواقع السوري خصوصًا.
1-استهداف ممنهج لفئة محددة من المسلمين واخضاعهم لظروف قاسية وظلم شديد وقوانين جائرة من الصين وحتى فرنسا مرورًا بمنطقتنا العربية وعلى وجه الخصوص بلاد الشام. مما جعل للارتباط بالدين ثمنًا لا يستطيع كل أحد أن يدفعه.
2-استهداف مواز للثقافة الإسلامية وتشويه صورتها واستغلال ثغراتها عبر وسائل الإعلام التي تتحكم بها حكومات وظيفية، وللرموز الإسلامية عبر أدوات القمع التي تحركها ذات الحكومات الوظيفية والتي لا تعبر بحال عن تطلعات شعوبها وإنما تنفذ أجندات مشغليها.
3- معادلات دينية خاطئة زرعها في عقول الجيل معممون جهلة ليس لديهم الوعي الكافي لقراءة ناضجة لحركة التاريخ وألاعيب السياسة ومعارك الفكر والثقافة ومستجدات العصر وأدوات التأثير. أثبتت الوقائع عدم صحتها ما دفع البعض للتشكيك بالمنظومة بأكملها.
4- تخاذل معظم المعممين عن اتخاذ مواقف واضحة تجاه الظلم والاستبداد، وعدم التزامهم وقت الشدة بالقيم والمبادئ التي زرعوها في عقول الشباب وقت الرخاء جبنًا عن دفع ثمن الالتزام وهو دون شك ثمن باهظ.
5- الصراعات البينية الفكرية والميدانية التي أفرزتها الأحداث بين أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد والتي وصلت إلى حد الصراع الدموي على مسائل فرعية تافهة لا تمس جوهر الدين وأصله.
6- المفارقة التي عاينها المهاجرون إلى أوروبا بين مجتمع أوروبي علماني لا يقيم وزنًا للدين يعيش حالة من الاستقرار والرفاهية تحت مظلة حقوقية تضمن الحياة الكريمة لكل فرد فيها، ومجتمع عربي مسلم يشكل الدين مرجعيته الرئيسية التي تنظم كل تفاصيل حياته يعيش حالة من الفوضى والفاقة تحت مظلة استبدادية تخنق حريته وإمكانات إبداعه.
هذه العوامل وغيرها دفعت الكثير من الشباب إلى طرح التساؤلات ووضع إشارات استفهام على العديد مما كانوا يعتبرونه بديهيات أو مسلمات. وهذا طبيعي ومبرر لأي إنسان يستخدم عقله في محاولة منه لتفسير وتحليل ما يجري حوله والبحث المتجدد عن الحقيقة. لكن هذه التساؤلات – مع تحريض الشهوات وقساوة الواقع – قادت البعض إلى التحلل جزئيًا أو كليًا من التزاماته الدينية سواء على مستوى السلوك أو الاعتقاد، وهنا تحتاج المسألة إلى وقفة. أن تفكر وتتساءل وتمسح غبار الخرافة والجهل وتزيل ركام العادات وعوائق الحركة عن طريقك فأنت تحطم القيود وهذا مفيد لك ولمجتمعك، أما أن تتحلل من مرجعيتك الأخلاقية وعمقك الحضاري والتزامك الإنساني وذاكرتك الاجتماعية والثقافية فأنت حينها تقطع ارتباطك بالجذور وهذا كارثي لك ولمجتمعك. وأنا هنا لست بصدد مناقشة صحة الدين من عدمه من الناحية المنطقية وعلى مستوى الأدلة العقلية. فهذا بحر واسع عميق له أهله ومثلي قد يغرق فيه. (يمكن للمهتم أن يتابع مثلًا حلقات الدكتور عدنان إبراهيم المتوفرة على اليوتيوب بعنوان: ” مطرقة البرهان وزجاج الالحاد “، وهي سلسلة من الدروس العلمية العميقة والمقنعة يناقش فيها كل نظريات الإلحاد المعروفة ويفندها بأسلوب علمي ومنطقي وعميق). لست إذاً في وارد الحديث عن خطورة المسألة من الزاوية الفكرية والمعرفية والاعتقادية وإنما أود فقط أن أشير إلى خطورة فك الارتباط عن الدين على حالة الاستقرار الداخلي (الفكري والنفسي والاجتماعي) للفرد، وسأتجنب الحديث عن خطورة ذلك على المجتمع.
إن نار القذائف والحمم التي صبها أعداء الإنسانية على مدننا وحقولنا ومشافينا وأسواقنا كانت كافية – ليس فقط – لحرق البيوت والمحاصيل والأشجار وتدمير البنى التحتية للمدن والبلدات، وإنما أيضًا لحرق الكثير من الأفكار والمسلمات والمعتقدات وتدمير البنى التحتية للأيديولوجيات والنظريات والثقافة الاجتماعية. ويمكنني ابتداءً أن أؤكد أن الذي تم تدميره من الدين هو بعض المعادلات والديكورات والاضافات التي تراكمت على قواعده على مر العقود وربما كان لتراكمها تبرير معقول في وقته فرضه السياق التاريخي وضرورات المرحلة، لكن ما لا يمكن تبريره أن تلتصق هذه الاضافات المرحلية بالدين إلى درجة التعامل معها وكأنها من أصل الدين الإلهي وبنيته الأساسية، أما القواعد الكلية الأصيلة – الفكرية والاعتقادية والسلوكية – التي قام عليها جوهر الدين الإسلامي فلا يمكن تدميرها إلا عندما يتم تدمير هذا الكوكب لأنها تشكل كود الدخول ورمز التشغيل للحياة على هذا الكوكب – وفقا لقناعتي على الأقل – . ” فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض “.
إن فك ارتباطك عن الدين الذي يشكل مرجعيتك الفكرية والسلوكية الأساسية، وذاكرتك الاجتماعية وعمقك التاريخي والحضاري والثقافي سيجعلك بلا جذور. وربما تشعر حينها أنك حر، لكنها الحرية التي تعفيك من التزاماتك تجاه نفسك وأسرتك ومجتمعك. الحرية التي تلقي بك في بحر العبثية دون قارب أو مجداف.
بلا جذور ستتحرك بشكل أسهل وأسرع لكنك ستشعر في داخلك بفراغ قاتل يجعلك على حافة السقوط والانهيار في أي لحظة. سقوط سينتهي بك في وادي القلق والاكتئاب والأمراض النفسية المستعصية.
بلا جذور. أنت حر. لكنك خفيف الوزن تتلاعب بك الريح كما تشاء وتحملك الأمواج إلى الشاطئ الذي تختاره هي. ربما تصطدم بصخرة وربما يعترضك جدار فتتكسر أضلاعك وتتحطم أطرافك وتتهشم أعضاؤك. ربما تتركك الأمواج وسط البحر فتغرق فيه بصمت دون أن يسمع صوت استغاثتك أحد.
بلا جذور. ستفقد بوصلتك الداخلية وتختل موازينك الذاتية وتتحرك بصورة عشوائية لا تدري لماذا وإلى أين. بلا جذور. أنت أكثر حرية في الحركة لكنك أكثر قابلية للانهيار الذاتي والتفتت والانشطار مع أول هزة عنيفة أو صدمة قوية. أن تفقد ارتباطك بعمقك يعني أن تصبح بلا قواعد. بلا ملامح. بلا كيان. بلا شخصية. وربما بلا هدف.
الدين – كمنظومة فكرية أخلاقية ومرجعية ثقافية سلوكية – ليس مجرد طقوس وقواعد وقوانين. إنه شخصيتك الحضارية، وذاكرتك الاجتماعية، وجنتك الداخلية، وكهفك الذي تأوي إليه عندما تنتشر الوحوش في الغابة وتحاول أن تنهش لحمك وما أكثرها في غابة الأرض الكبيرة. الدين هو قمة الجبل الذي تلجأ إليه وقت الطوفان. إنه نافذتك إلى السماء عندما تضيق بك الأرض وتخنق أنفاسك. إنه حلم العدالة للمظلومين والمقهورين، وفرجة الأمل للمضطهدين والمساكين. إنه الاستقرار والطمأنينة والجسارة زمن الكوارث والنوازل. إنه خباء المشردين حين يتخلى عنهم العالم. إنه الرباط الذي بدونه يتحول المجتمع وربما الفرد إلى عيدان رقيقة تتكسر بأيدي العابثين أو تحت أقدام العابرين.
لا أحاول الإيحاء أن المتدين يعيش بلا مشاكل داخلية أو صراعات نفسية أو شذوذات سلوكية. فالمتدين كغيره قد يحيد عن الطريق ويتعثر ويعاني من المشاكل النفسية ويفقد توازنه في بعض المراحل، لكن الفارق الأهم أن لديه كهف يأوي إليه حين الخوف وعش ينام فيه وقت البرد ومرجعية يستند إليها حين الهرج والمرج ورب يسجد بين يديه فيفرغ على بابه حمولته من الهم والغم والتشتت والضياع.
ليس الهدف من هذه المقالة تقييد العقل ومنعه من الحركة. وحركة العقل قائمة على البحث والاستفهام والاستدلال والاستقراء والاستكشاف، والشك أداة مهمة من أدوات عمله. فكل هذا متاح له بل ومطلوب منه وفقًا للدين الذي أفهمه وأؤمن به، ولكن لا تسمح للعقل أن يأخذك – بتحريض من الرغبات والشهوات – بعيدًا عن ساحة الفكر والأخلاق نحو الضياع والفراغ والعبث. لا تسمح له بالغرور والتغرير بك إلى درجة فصلك عن جذورك الأخلاقية والإنسانية. فالعقل بلا ضوابط قد يوصلك للجنون أو التأله أو الاستعلاء. والعقل الذي تقوده الرغبة سبيل للضياع والخواء والانهيار النفسي والتوحش. لا بد للعقل من ضوابط وكوابح ومحددات. لا بد للجسد من روح تبث فيه الحياة ولا بد للعقل من قلب يغلف منتجاته بالأخلاق ويخفف اندفاعه وجموحه بشيء من السكينة والطمأنينة.
لا بأس أن يكون لك أجنحة تطير بها في عالم الفكر والثقافة، وتحلق من خلالها في فضاء العلم والأدب، وتستمتع عبرها بنسيم الحرية، وتصل بواسطتها إلى قمم النجاح، وتطرق بها كل أبواب المعرفة وتحاول أن تجد جوابًا لكل الأسئلة التي تخطر على بالك. لا بأس من كل ذلك. ولكن قبل أن تستخدم جناحيك لا بد أن تتأكد أن لديك عش جاهز آمن تؤوب إليه وترتاح فيه بعد أن تتعبك ساعات الطيران الطويلة المجهدة. لا ضير من تحطيم القيود، ستصبح حركتك أسهل. ولكن حذار من قطع الجذور، ستصبح بلا وزن.
” كتبت مسودة هذه المقالة قبل بدء وباء كورونا على ضوء ما وصلني من أحوال بعض المهاجرين إلى الغرب. وترددت اليوم في نشرها لأنني أحسست أن الفيروسات ربما تكون أكثر إقناعًا وأسرع وصولًا من الكلمات “
المصدر: صحيفة إشراق