واحد وخمسون سنة على اغتيال جمال عبدالناصر وما تزال حروب شاملة ضروس توجه سموم حقدها وعدائها لقائد ثورة مصر الناصرية؛ ثورة العرب الكبرى والأولى لتحرير الأرض والإنسان وبناء وطن العزة والكرامة. فلماذا كل هذا ومن يقف وراءه وماذا يريد؟؟
ان إجتماع كل اعداء التقدم العربي على محاربة جمال عبدالناصر وثورته في حياته وعلى تشويه تجربته منذ مماته ؛ لهو دليل علمي قاطع على سلامة نهج التجربة الاستراتيجي وصوابية منطلقاتها وتوجهاتها معا ؛ لجهة انتمائها إلى إرادة الأمة العربية والتعبير الأمين عن مصالحها وتطلعات شعبها…( علما ان هذه الحرب العدوانية لم تهدأ ولم تتوقف منذ أيام الثورة الأولى يوم اتضحت القسمات العامة لمساراتها الوطنية الإستقلالية )..
إنه دليل عملي علمي موضوعي على قيمة ما أنجزت وما بنت على كل المستويات لمصلحة التقدم العربي والاستقلال الوطني..
لو لم يكن هؤلاء المتكالبون الحاقدون من أعداء التقدم العربي والنهضة العربية ؛ لوجب علينا الرد على طروحاتاهم وانتقاداتهم الكثيرة للثورة وما أنجزت..من موقع التفهم والتفاهم ..
لو لم يكونوا رافضين لمنطلقات الثورة ذاتها قبل عدائهم لنهجها وإنجازاتها ؛ لحق لهم ما يقولون ووجب علينا سماعهم وفهم ما يسوقون من انتقادات ولو وصلت حد التشكيك والإتهام..وجب علينا الفهم والتحليل وصولا الى معرفة الحقيقة..وبالتالي التوافق معهم ومع كل المتوافقين في المنطلقات المختلفين في التفاصيل والمواقف…
أما وان جميع من يهاجمون التجربة ويشوهون في مسيرة قائدها ؛ ينتمون الى مواقع تعادي جميع المنطلقات الاستراتيجية للامة ذاتها وليس لجمال عبدالناصر او مواقفه السياسية وانجازاته الاقتصادية وإنحيازاته الإجتماعية ؛ فإن الأمر يستدعي وقفة وتأملا عميقا لمعرفة حقيقة دوافعهم ومواقفهم وإنحيازاتهم هم أيضا..
إن معاداة الوجود القومي للامة ومتطلبات تجسيده في وحدة سياسية يتمتع في ظلها الشعب العربي بحرياته الكاملة ويسخر موارده لتنمية مجتمعه وتطوير حياته ومواجهة أي عدوان عليه من أية جهة اتى ؛ يجعل الذين ينساقون في ركابه أعداء للحرية ذاتها وللتقدم ذاته وللمستقبل العربي الأفضل..وبالتالي فهم ينتمون الى معسكر اعداء الثورة الألداء فلا يتوقع منهم أي موقف إيجابي من الثورة ومن مسيرتها ؛ وكل معارضاتهم لها إنما هي تعبير عن رفضها من الاساس وليس تعبيرا عن رغبة في تصحيح أخطائها وتدارك ثغرات تجربتها وسلبياتها أو تعزيز إيجابياتها وترشيد خطواتها بالنقد الإيجابي البناء..
من هم هؤلاء الذين لا يرون خيرا في تجربة جمال عبدالناصر فيتهمونها بشتى التهم والإفتراءات بدءا من تبديد امكانيات مصر الى الفشل في كل المعارك والميادين الى القمع والاستبداد إلى الكثير من التخرصات التي تهدف الى فض ذلك الالتحام التاريخي بين الشعب والتجربة وقائدها ثم الى تبرير التخلي عن منجزاتها بل تدميرها وصولا إلى إقتلاع ذلك الإنصهار الوجداني الفريد من نوعه بين ضمير الشعب العربي وقائده الرمز.. تسهيلا لهم وتمكينا لعدوانهم على الأمة ذاتها..فالأمة هي المستهدفة في مواردها ومكانتها ووجودها وما إستهداف جمال عبدالناصر إلا لأنه قائد ثورتها الكبرى الى النهضة والتحرر والاستقلال وغدا رمزا لكل ذلك ودافعا إليه ومحرضا عليه حتى وهو في دنيا الحق ..
– من هي تلك القوى وماذا تريد ؟؟
– كيف كانت خريطة الواقع العربي عشية ثورة ٢٣ تموز ١٩٥٢ ؟؟
١ – الوضع الرسمي العربي :
بعد فشل محاولات التحرر العربي من السلطة العثمانية وفشل محاولات الاستقلال في دولة عربية واحدة ؛ خضعت المنطقة العربية للاحتلال الأجنبي بالكامل تقريبا .فتوزعت بين احتلال فرنسي وآخر بريطاني إنجليزي وبعضه ايطالي وآخر اسباني محدود..
كان هذا التقاسم بين القوى الاستعمارية سببا مباشرا لتقسيم الارض وإقامة دويلات وكيانات تجزيئية وظهور دويلات متعددة بدلا من دولة واحدة تجمع العرب ليبنوا مستقبلهم وفق تطلعاتهم التحررية النهضوية المستقلة..
وفي فترة ما بين الحربين العالميتبن الاولى والثانية كانت جميع الأرض العربية محتلة من دول ذلك الزمن الكبرى ، وتحديدا فرنسا وبريطانيا.. ( ما عدا بعض أجزاء الجزيرة العربية ) ..في تلك الفترة أنشأت دول الإحتلال أدوات لها محلية من أبناء البلاد العرب وأشباه العرب : دربتها ، نظمتها ، أسست لها قاعدة إقتصادية من موارد البلاد المحلية أو عبر تجارة خارجية ووكالات أجنبية وأتبعتها بنهجها السياسي وعقلها الثقافي فصارت تابعة لها تماما تأتمر بأمرها وتلجأ إليها في الكبيرة والصغيرة بعد أن باتت تعرف المهام المطلوبة منها والحدود التي يمكنها التصرف فيها ..وبعد الحرب الثانية انسحبت معظم الجيوش الأجنبية من كثير من الأرض العربية وسلمت السلطة فيها لتلك القوى التي سهرت على تنشئتها وتأهيلها..وأنشات لها دولا مستقلة ذات أناشيد واعلام ومؤسسات ودساتير وجيوش وخدم وحشم وتدق لها الطبول والبرزانات وتحشد لها الفرق الموسيقية وتطلق على متنفذيها أسماء كبيرة توحي بعظمة وأبهة تثير الحسد وشهيات الرعية .وهكذا صارت هذه الدول في حقيقتها بمثابة أذرع محلية تنوب عن القوى الأجنبية التي صنعتها ؛ فيما تحاول إظهار عضلاتها كدول مستقلة ذات سيادة تقرر وتريد أو تفعل ما تريد لإستلاب عقول الناس وتسخيرهم او سوقهم في تنفيذ ما هو مطلوب منها فعله…وكانت أخطر مهماتها تحويل تقسيمات سايكس – بيكو الورقية النظرية إلى حدود عملية ميدانية..وقد برعت تلك الدول أو ما يسمى في الفكر السياسي العربي المعاصر أنظمة سايكس – بيكو أو الإقليمية العربية ؛ برعت في تنفيذ تلك المهمة المهولة فزرعت من الحواجز النفسية والجغرافية واتخذت من المراسيم والإجراءات القانونية والجمركية والتعليمية ما صنع فجوات كبيرة في التواصل بين أبناء البلاد وأركس عمليات التفاعل الوطني – القومي بينهم ثم تمادت فأركست التفاعل الإجتماعي الوطني المحلي في بلدانها التي تتحكم بها..
كل ذلك ما كان يتم إلا بإشراف ورعاية قوى الإحتلال السابقة المنسحبة ظاهرا والحاكمة ضمنا..
ثم توجت هذه المسيرة بإنشاء الكيان الصهيوني كمستعمرة في فلسطين قلب المنطقة العربية والطريق لوصل مشرقها بمغربها..
كان واضحا أن الهدف الاستعماري من إنشاء الكيان الصهيوني ؛ يتمثل في مطاردة كل محاولة عربية للتحرر والوحدة والتقدم..فصارت الدولة – المستعمرة الجديدة بمثابة الرديف المكمل للنظام الإقليمي العربي يتناغمان في تكريس التقسيم والتجزئة وإفشال اية محاولة للتقدم والنهضة والتحرر..فوضعت الدول الإستعمارية كل ثقلها وإمكانياتها المتنوعة لتثبيت دولة الإحتلال في فلسطين ثم تدعيمها للإمتداد حتى تحقيق مشروعها الإستعماري المتكامل بوأد الامة العربية وإلغاء وجودها وليس فقط دورها ومواردها..
وهكذا إطمأنت قوى الإحتلال السابقة ( الراهنة ) إلى إمساكها التام بمقدرات الامة كلها وبالسيادة على إرادتها وقرارها وتوجهاتها السياسية العامة…وأنشات جامعة الدول العربية لتكون غطاء لواقع التجزئة والتبعية والخضوع…
وفجاة قامت ثورة ٢٣ تموز وظهر جمال عبدالناصر ليعلن عن مشروع مستقل للنهضة والبناء وتحرير الإرادة ..
فماذا يفعلون ؟؟
٢ – الوضع الشعبي العربي :
أ – كانت الدعوة العربية إلى إستقلال العرب وتأسيس دولة عربية واحدة قد بدأت تنتعش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر..وبلغت ذروتها في أواخره وبدايات القرن العشرين..فشكلت إزعاجا لكل من السلطات العثمانية – التركية وعصبيتها القومية المستنفرة آنذاك ؛ كذلك للسلطات الاستعمارية البريطانية والفرنسية وأطماعها ونواياها العدوانية الخبيثة المبيتة ضد العرب عموما وأرضهم وبلادهم..
ثم تراجعت تلك الدعوة العربية القومية في مرحلة تأسيس الدول العربية الجديدة وما فرضته على مؤيديها من حصار وترويع بغطاء من قوى الإحتلال الأجنبي…
وبلغت ذروة تراجعها مع تأسيس جامعة الدول العربية التي عملت على امتصاص المشاعر العربية الوحدوية وتحويلها إلى ولاء للكيانات الإقليمية المستحدثة…
وفجأة حصل تغيير للنظام في مصر وظهر جمال عبدالناصر وخطابه الثوري العروبي الوحدوي خلافا لكل ما سعت إليه قوى الإحتلال ومعها الكيان الصهيوني المصطنع الجديد وانظمة الإقليمية العربية..
فماذا يفعلون ؟؟؟
ب – وفي الوقت الذي كانت دول الاستعمار تعمل على خط تأسيس دول عربية منفصلة إقليمية تحت وصاياتها ، كانت تعمل على خطوط شعبية أخرى مختلفة..
خلال قرنين من الزمن إتجهت بريطانيا للتسرب في أوساط المسلمين في كل مكان بهدف إستقطاب فعاليات دينية وبث سمومها والفتنة في أوساطهم ..جعلت من بعض من استقطبتهم نافذين ونجوما وشخصيات عامة دينية او سياسية أو إجتماعية..وبعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى اتجهت لتكوين أحزاب دينية إسلامية بدأت بالظهور العلني والعمل التنظيمي في النصف الثاني من عشرينات القرن العشرين..في الوسط الاسلامي السني كما في الوسط الاسلامي الشيعي..وراحت في العراق تؤسس لتكتلات مذهبية تحتفل بمناسبة كربلاء باسلوب مذهبي تحريضي كان منطلقا لدعوات فتنوية مذهبية لاحقة…
وفي الربع الثاني من القرن العشرين كانت الحركات ذات الطابع الديني قد أصبحت تتمتع بشيء غير قليل من النفوذ والتوسع مع توفر امكانيات مالية في ايديها تستخدمها في خدمات إغاثية أو معيشية او مدرسية لتثبيت وجودها وتكوين تيار شعبي مؤيد لها..
مع تركيز واضح على مصر والعراق والمشرق العربي..
ج – في جهة مقابلة كانت الحركة الشيوعية اليسارية ومنذ العشرينات من القرن العشرين ايضا تمد بأذرع لها وتبني أحزابا وحركات سياسية مرتبطة سياسيا وتنظيميا وعقائديا أيضا بالإتحاد السوفييتي ومن بعده الصين الشيوعية..وتوسعت بعض تلك الحركات بفعل دعم أممي كبير لها أيضا إجتماعي وتعليمي وإعلامي..وما أن إنتصف القرن العشرين حتى كانت هناك أحزاب شيوعية رسمية في اغلب البلدان العربية في المشرق كما في المغرب ، مع تركيز واضح على مصر والعراق والمشرق العربي…
وقد كانت الوظيفة الأساسية لتلك الحركات اليسارية ؛ امتصاص المشاعر التحررية الثورية عند العرب وقولبتها في إطار أممي منضبط وفقا لولاء تام للاتحاد السوفييتي..وصرف النظر عن الدعوة القومية الى وحدة العرب..
وفي تلك الأثناء كان لافتا جدا ذلك التعاون الوثيق بين تلك الأحزاب الشيوعية وقيادات يهودية كانت تعمل لصالح الحركة الصهيونية ومشروعها العدواني بإغتصاب فلسطين..حتى ان بعض هؤلاء كان يحتل مواقع قيادية متقدمة في تلك الأحزاب ..
اللافت جدا في تلك الأحزاب الدينية والأحزاب اليسارية أنها تشترك في منطلقات عقائدية متشابهة تماما وإن كانت من مواقع وتبريرات مختلفة..
كانت جميعها تنكر الهوية القومية وتعلن انتسابها إلى أممية دينية مؤمنة أواممية علمانية إلحادية ..
المشترك بينها رفضها الإعتراف بالهوية القومية للمجتمع الذي تعمل فيه وبالتالي رفض مبدأ وحدته القومية بل تعمل في معاداتها بحجة مخالفتها لما تؤمن به أمميا …وهكذا انتزعت تلك الحركات ومن معها وفيها من بشر ؛ من ولائها الوطني لأنها ظنت أنها تخدم رسالة أممية أعلى واكبر وأهم من أي إنتماء وطني أو هوية قومية..فتحولت إلى قوة مضادة لحركة التحرر الوطني والوحدة القومية..
فالقومية عند الأحزاب الدينية عصبية مرفوضة في الإسلام وتجب محاربتها..
والقومية عند الأحزاب الشيوعية عصبية تشوه الصراع الطبقي وتلغي الأممية العمالية..فهي بالتالي مرفوضة بل تجب محاربتها..
وهكذا وجد هؤلاء أنفسهم في خندق واحد معاد للهوية القومية والدعوة الى تحرير وتوحيد الامة العربية..
وهو ما سوف تظهر مفاعيله الخطرة مع إنتعاش الدعوة القومية العربية وتجدد الآمال بوحدة أمة العرب بظهور جمال عبدالناصر.
فماذا يفعلون ؟؟؟
د – عدا ذلك كانت قوى الإحتلال الفرنسية والإنجليزية تعمل على استقطاب نخب عربية في كل المجالات وتبث سمومها الفكرية والثقافية في عقول تلك النخب..وقد امتلكت من الوسائل والإمكانيات الضخمة ومن المدارس والجامعات والمعاهد ومن المصالح والإغراءات والتوظيفات ما يجعلها قادرة على التأثير في عقول كثيرة واستقطاب نفوس أكثر بكل الوسائل المتوفرة لها وهي صاحبة السلطة والسلطان والنفوذ وصاحبة المشروع الإستعماري المعادي للأمة والطامع في مقدراتها جميعا..
وبسبب من هذا كله إستطاعت إبراز الكثير من تلك النخب وتكبير حجومها وادوارها كما تمريرها في كثير وربما أغلب الأحزاب والتنظيمات والمؤسسات والجمعيات وفي مواقع بارزة ومتقدمة…
وقد امتد تغلغل قوى الإحتلال الأجنبي في الأوساط العربية بمختلف توجهاتها وتنوع مستوياتها ومجالات عملها قرابة ثلاثة قرون منذ أن تعاهدت الدول الأوروبية الستة الكبرى في ذلك الوقت مع الدولة العثمانية التي اعطت تلك الدول ” حق رعاية شؤون مواطنيها الذين يعيشون في نطاق السلطنة بمن فيهم أبناء البلاد ” ..وكان هذا كافيا ليفتح أبواب التسلل الغربي إلى عمق الحياة العربية…حيث الغرب الإستعماري الحاقد ذو الإمكانيات الضخمة وأمامه المجتمع العربي المقهور والمنكوب والأعزل والمستباح لقوى التسلط والنفوذ الأجنبي..
وما إن انتصف القرن العشرون حتى كانت أعداد وفيرة من النخب العربية المدربة والمحمية والمشمولة بالرعاية الغربية ، قد احتلت مواقع نافذة في كل مجالات الحياة ، تعمل وتبشر بما يسهل للنفوذ الأجنبي المزيد من التسلل والتغلغل والتأثير في الحياة العربية..
وفجاة ظهر جمال عبدالناصر بثورته ورسالته التحررية ..
فماذا يفعلون ؟؟.
٣ – الإنسان العربي..
في مقابل كل ما سبق كيف كانت حياة الإنسان العربي العادي البسيط وهو الغالبية الساحقة من أبناء الشعب العربي ممن يكدون ويتعبون لكسب حياتهم والحفاظ على هويتهم وقيمهم الأخلاقية الإجتماعية والدينية ؟؟
في منتصف القرن العشرين كان قد مضى على الإنسان العربي قرابة أربع قرون وهو مسلوب الإرادة محكوم بسلطات لا تعمل لخدمته وتنميته وحل مشكلاته ؛ تتحكم بمصائره تصادر مقدرات بلاده ؛ سلطات أقل ما يقال فيها أنها لا تملك الكفاءة اللازمة للدفاع عنه وعن أرضه ومقدساته كما لا تقدر ولا تهتم بتطوير مجتمعه وتحسين أحواله وتأمين متطلبات حياته بشكل لائق يؤمن له حياة حرة كريمة…وإذا أضيفت الى هذا كله تدخلات خارجية كثيرة وفتن داخلية تحركها قوى أجنبية واحتلالات أجنبية عدوانية كان قد مضى على بعضها أكثر من قرن كامل ، مع ما يعني هذا من عدوان يومي مستمر على حقوقه وأخلاقه وحياته ومستقبله وإرادته أيضا..
ثم أضيفت ضريبة مرهقة للحروب التي خاضتها القوى الأجنبية على أرضه وبمشاركته فيها رغما عنه ؛ ثم استشهاد أعداد كبيرة من أبنائه وشبابه وطاقاته الإنتاجية في تلك الحروب..
ثم بعد ذلك حصار الدولة الإقليمية الناشئة لتطلعاته التحررية والوحدوية وحتى الحياتية …
وحينما قامت حرب ١٩٤٨ ضد العدوان الصهيوني فإذا به يكتشف الكم الهائل من الخداع الذي تعرض له والأوهام الكثيرة التي جعلوها أمامه حقائق ثابتة بفضل سلطاتهم وما يملكون من نفوذ وامكانيات وقدرة على التأثير ؛ فلا يلبث أن يجد أرضه قد احتلت وكيانا غاصبا إستعماريا قد إخترع إختراعا بالقوة والتزوير وهو مكبل مضطهد مخدوع…فدخل في دوامة القهر المضاعف والشعور الخطير بالمهانة وإستلاب الإرادة والضعف والذل والهوان ..وبدأت نقمته على نظامه الإقليمي وواقعه المجزأ والرضوخ الذليل للأجنبي ؛ كما على قوى الإحتلال التي أنشأت الكيان الصهيوني وعلى الكيان ذاته ؛ تتصاعد وتغلي في داخله مقاربة حد الإنفجار من الإحساس بالعار والذل والمهانة…
كان الإنسان العربي يواجه وحيدا كل أنواع التحديات الحياتية والمخاطر الوجودية وعدوان متعدد المصادر وقهر متنوع الأشكال والأنماط والوسائل..
لقد تركت تلك الظروف الممتدة قرونا آثارها السلبية في الانسان العربي وحياته كلها وفي مختلف جوانبها.. فكان على أية حركة لتغيير هذا الواقع أن تواجه القوى المضادة والمعادية ومعها تلك الراسب والآثار النفسية والعامة في حياة الانسان وفكره وعقله وفي بناه الاجتماعية ونظمها ومصالحها..٠
وفجاة قامت ثورة مصر في ٢٣ تموز ١٩٥٢ ولعلع إسم جمال عبدالناصر وهو يناديه :
” إرفع رأسك يا أخي فقد ولى عهد الإستعمار ”
فماذا هو فاعل إزاء هذا كله ؟؟؟
٤ – الوضع الدولي :
بنتيجة الحرب العالمية الثانية خرجت الولايات المتحدة الاميركية كأقوى طرف بين كل الأطراف المتحاربة..ليس هذا فقط بل كانت صاحبة ” فضل ” على المنتصرين الذين خرجوا منهكين من أثمان الحرب التي دفعوها ماديا وبشريا..اما المهزومون فكانوا تحت السيطرة تماما يقبلون بما يملى عليهم من المنتصرين..
صاحب هذا بروز نزعة سيادية إستعلائية في خطاب السياسة الأميركية على مستوى العالم..وراحت تحاول فرض هيمنتها السياسية والعسكرية وتستتبعها بالإقتصادية .ولم يصمد في وجه تسلطها إلا المعسكر الشيوعي بزعامة الإتحاد السوفييتي والصين الشعبية..اما العالم الثالث فكان خاضعا لها بمجمله..تزيح فيه من أمامها من لا يماشيها وتنصب من تريد..
الولايات المتحدة الاميركية استعاضت عن الاحتلال العسكري المباشر بإحتلال السلطة والسياسة والموارد الإقتصادية ..ثم راحت ترث نفوذ فرنسا وبريطانيا تدريجيا…فيما تحاصر البلدان ذات نظام الحكم الشيوعي لتمنع إمتداداتها العقائدية المناهضة لنظام الحكم الرأسمالي ..
وفي هذا الوقت الذي باتت تسيطر على معظم دول العالم العربية والافريقية والأسيوية والأميركية اللاتينية وتسوق أوروبا سوقا ناعما برغبتها ؛ وإذ بثورة تغير نظام الحكم في مصر ويظهر ضابط شاب يسمى جمال عبد الناصر يريد ورفاقه تحرير مصر والعرب !!!
فماذا يفعلون ؟؟؟
٥ – الجوار الإقليمي :
كانت دول الجوار الإقليمية وتحديدا تركيا وإيران ؛ خاضعة لهيمنة النظام الرأسمالي العالمي المعادي لكل ثورة شعبية تحررية..ولم تكتف هاتان الدولتان بقمع تطلعات شعبيها التحررية ؛ بل وضعت نفسها في خدمة النظام العالمي الذي يحميها ويرعاها وتحديدا في معاداة محاولات التحرر العربية وآمال شعبها العربي في الحرية والوحدة والتقدم..وفضلا عن الأجزاء الكبيرة التي إحتلتها من سورية شمالا وكل إقليم الأحواز على الخليج العربي شرقا ؛ فإنها إستخدمت إمتداداتها الشعبية الدينية في البلاد العربية للتخريب على ثورة جمال عبدالناصر وقيادته التحررية ..تحت غطاءات مذهبية منكرة مشبوهة..
٦ – الكيان الصهيوني :
الذي أقامه نظام الغرب الإستعماري ذاته اي نظام سايكس – بيكو الذي جزأ البلاد العربية وصنع فيها وعليها دويلات تخدمه وتنفذ أهدافه ؛ تحول منذ اليوم الأول إلى قاعدة للانشطة الإستعمارية المعادية لنهضة وتحرر وتقدم المنطقة العربية..وراح يستفيد من كل إمكانيات الغرب والولايات المتحدة الأميركية – وهي القوة البازغة التي تقدمت صفوف الدول الغربية فمثلت إمبريالية جديدة متقدمة عن كل من سبقها – لتخريب مسيرة التحرر العربي فكانت ثورة ٢٣ تموز وقائدها ألد أعدائه ..فوظف كل إمكانياته المفتوحة والشاملة للقضاء على الثورة وإسقاط قائدها ورمزها جمال عبدالناصر..
٧ – المعسكر الشيوعي :
بزعامة الإتحاد السوفييتي الذي وقف إلى جانب الثورة بالدعم العسكري والفني واللوجستي بكثير من الود والتقدير إلا أنه كان أول المعترفين بدولة الكيان الإسرائيلي منذ قيامها سنة ١٩٤٨ وكانت له رؤية خاصة إعتبرت هذا الكيان أول دولة إشتراكية في المنطقة العربية لذلك إتخذ منها موقفا إيجابيا..
ثم إتخذ موقفا سلبيا من حركة التحرر الوحدوية العربية تحت مظلة رؤية قاصرة إعتبرت أنه لا توجد أمة عربية واحدة وبالتالي تسقط فكرة الوحدة وتصبح أية دعوة وحدوية حركة عنصرية شوفينية تجب محاربتها..ولهذا وقف اليسار الشيوعي العربي موقفا معاديا للوحدة المصرية السورية وموقفا سلبيا من عموم التجربة الناصرية التي حاول إختراقها وإستثمار منجزاتها بعد أن عجز عن الوقوف في وجهها..
وقد كان لموقف الإتحاد السوفييتي الملتبس المشبوه عشية حرب حزيران ١٩٦٧ أثر سلبي واضح في مسار الحرب وحصول الهزيمة..
٨ – الصين وعدم الإنحياز :
وحدها الصين الشعبية ودول حركة عدم الإنحياز وخصوصا الهند ويوغسلافيا ؛ وقفت مع الثورة وقائدها وإن كانت لم تتمكن من تقديم مساعدات ذات شأن لها لأنها كانت دولا ناشئة تسعى لبناء ذاتها بنهج إستقلالي متحرر من السيطرة الأجنبية كما كانت مصر تفعل وتريد.
– خلاصة الأمر أن الانسان العربي كان عشية ثورة ٢٣ تموز ، مستباحا وأرضه محتلة وتطلعاته مقموعة مصادرة ..أعزل من كل قوة وفعالية إلا من إرادته …فيما كل اسباب القوة والنفوذ والسلطان متاحة بكثرة للقوى المعادية وتوابعها المحلية من نظم وأحزاب ونخب وجمعيات وفعاليات إقتصادية…
وعند أول معركة وطنية ضد الإحتلال الإنجليزي لمصر خاضتها الثورة الجديدة وإنتصرت فيها فارضة جلاء الإنجليز عن أراضي مصر العربية حتى راح الرصيد الشعبي للثورة يتراكم ويتصاعد..وحينما واجهت الثورة العدوان الثلاثي : الإنجليزي الفرنسي الصهيوني بمقاومة شعبية رائعة وقيادة سياسية فذة فإنتصرت وتثبت تأميم قناة السويس وصار حقيقة واقعة فعليا ؛ إلتهبت مشاعر الجماهير العربية كلها من المحيط إلى الخليج معلنة الولاء لنهج هذه الثورة الفتية والتلاحم غير مسبوق مع قائدها الذي أصبح رمزا للحرية والكرامة والإستقلال في بلاد العرب بل في كل بلاد العالم حيثما وجدت شعوب تتطلع الى الحرية والإستقلال..
فجرت الجماهير العربية آنذاك أملها بوحدة الامة فكانت وحدة مصر وسورية سنة ١٩٥٨ الرائعة فشكلت أملا بوحدة كل العرب وبابا لتشكيل قوة عربية عظمى تواجه كل الأخطار والتحديات القائمة ..
وحينما فشلت الولايات المتحدة الأمريكية في إستثمار حيادها و إنذارها لكل من فرنسا وبريطانيا بوقف عدوانها على مصر سنة ١٩٥٦ ، حيث فشلت في إحتواء الثورة المصرية بإصرار من جمال عبدالناصر على حرية قراره واستقلالية نظامه السياسي وخياراته الإقتصادية والإجتماعية ؛ وهو الامر الذي بلغ ذروة تحديه للإرادة الأميركية بالوحدة المصرية السورية ؛ تخلت عن سياسة ألإحتواء وتبنت خط العداء التام والكامل للثورة وقائدها وأطلقت كل إمكانياتها الظاهرة والخفية لمحاربة الثورة وإسقاط قائدها….
فنجحت في أول هجوم مضاد شامل لها بالإنفصال سنة ١٩٦١ ثم أتبعته بحرب حزيران ١٩٦٧ التي كانت طرفا عسكريا مباشرا فيها..
وكان رد الثورة على الإنفصال بمزيد من الإلتحام بالجماهير الشعبية العربية وتدعيم كل ثورة تحررية قامت بها وأكبرها ثورة الجزائر وسواها..ثم كان الرد على هزيمة ٦٧ بتصحيح الأخطاء والثغرات وإستعادة المبادرة عسكريا بحرب الإستنزاف المنتصرة وإقتصاديا وسياسيا بتطوير عملية البناء والتصنيع وتحديثها وزيادة فعاليات النمو والتنمية الوطنية الشاملة..
لسنا هنا في معرض الحديث عن إنجازات الثورة او إخفاقاتها ؛ عن إيجابياتها العظيمة واخطائها الكبيرة والصغيرة ؛ لكننا في هذا الإستعراض أردنا الإحاطة بكل الظروف التي عاشتها الثورة وعملت وواجهت في إطارها وزمانها ..وهو ما يتطلبه أبسط تقييم موضوعي للثورة بوصفها أكبر واهم واعظم تجربة عربية للتحرر والنهضة والإستقلال..
من هذا المنطلق وجب توضيح صورة الواقع والظروف المحيطة كما كانت خلال مسيرة الثورة.
١ – استمرت التجربة كلها ثمانية عشر عاما..
وهو في عمر الثورات والبناء وتغيير الوقائع قصير جدا جدا..
ومن بين كل عناصر المشهد المصري والعربي والعالمي ؛ وحده الشعب العربي الأعزل المقهور المستباح ، وقف مع جمال عبدالناصر وثورته…فيما تحالف جميع ما عداه لافشال الثورة وإسقاطها :
– النظام الإقليمي العربي والقوى المستفيدة منه أو التابعة له والمنبثقة عنه..
– النظام العالمي الرأسمالي الغربي بزعامة الولايات المتحدة بكل قوتها وجبروتها وعنجهيتها..
– الأحزاب والحركات الدينية من منطلقاتها الأممية الخاصة ورؤيتها الضيقة المنغلقة..
– الأحزاب والحركات اليسارية من منطلقاتها الأممية الخاصة ورؤيتها الرافضة للفكرة القومية من أساسها..
– القوى الإجتماعية التي نشأت في أحضان السيطرة الغربية خلال عقود طويلة سبقت الإحتلال المباشر وتصاعدت بنيتها وامكانياتها ونفوذها وإمتداداتها الأفقية في البنيان الإجتماعي مع الاحتلال الغربي المباشر ومع تأسيس النظام الإقليمي العربي.. وهي القوى التي كانت مصالحها مرتبطة عضويا بالواقع القائم وقوى النفوذ الذي تتحكم فيه..
– النخب المستقطبة أو المتأثرة بالنموذج الغربي والدائرة في فلك نفوذه السياسي والثقافي والأكاديمي مع ما تملك من تأثير في محيطها الإجتماعي بما منحها ذلك النفوذ الأجنبي من قدرات وامكانيات ووسائل..
– دول الجوار الأقليمي وما لها من إمتدادات شعبية في المجتمع العربي بحكم التاريخ المشترك والإنتماءات المذهبية والدينية..
– شبكات هائلة من وسائل الاعلام وصناعة الرأي العام والتلاعب بالعقول ومراكز الابحاث والدراسات ودور النشر والمطابع وسواها والجامعات والمدارس والمعاهد ؛ كانت تملكها تلك القوى العالمية والمحلية وقد وظفتها جميعا لتقويض الثورة وإفشالها واسقاط قائدها..
الخلاصة أن جميع هذه القوى كانت ضد الثورة وتعمل مستميتة للقضاء عليها..
بالمقابل كان على الثورة أن تبني لها مؤسسات ومراكز ومدارس وجامعات وحركات سياسية وصحافة وإعلام ودور نشر وتوعية وتثقيف ؛ تعبر عن نهج الثورة من جهة وترد على أعدائها من جهة مقابلة..
تشرح أهداف الثورة وتفند مزاعم اعدائها الكثيرين ..
– كان على الثورة أن تبني إنسانا جديدا واعيا إيجابيا متفاعلا مع قضاياه ومشكلاته ..وتخلصه من الرواسب السلبية لعهود القهر والتبعية والسيطرة الأجنبية..
– كان عليها أن تحرر الإنسان الموجود الذي توجهت اليه بخطابها وتوجهاتها الجديدة..
وحتى تحرر الإنسان كان عليها أن تحرر الأرض وتسترد سيادتها عليها حتى تستعيد مواردها وتوظفها لخدمة انسانها وتنمية قدراته وحل مشكلات حياته..وحتى يتحقق لها هذا وجب عليها بناء قاعدة اقتصادية صناعية انتاجية تلبي حاجياته وتحميه ووطنه من التبعية الاقتصادية التي تتلوها حكما تبعية سياسية..وحتى تحمي الارض والشعب والمنجزات ؛ تحتاج الى علم وقوة عسكرية ..فراحت تسابق الزمن لإكتساب العلم وبناء القوة العسكرية .وهذا يحتاج إلى أجهزة أمنية تحمي البناء كله والإنسان والشعب والوطن من أجهزة الأعداء..
وما أن إتخذت نهجها الثوري التحرري الإستقلالي حتى صارت مطالبة بتلبية احتياجات كل حركات التحرير في العالم الثالث وافريقيا والبلاد العربية..
ولما أثبتت منهجها الوحدوي صار لزاما عليها أن تبني مؤسساتها وقواعدها الوحدوية التي تعمل على تثوير الواقع من جهة وحماية الانسان الثائر من جهة ثانية..
– تصدت الثورة لعملية متكاملة لتغيير الواقع المصري ثم العربي ثم فرض عليها أن تكون رافعة لتغيير واقع افريقيا حيث الإمتداد الجغرافي والثقافي والديني والمصلحي لمصر والعرب..
والتغيير الثوري عملية شاملة متكاملة مترابطة الحلقات والمراحل .. لا تتم دفعة واحدة ولا بسرعة زمنية قياسية..
إن تحرير الانسان من سطوة القوى المحلية المستفيدة من بقاء الواقع واستمراره كما هو وبالتالي المتضررة من اي تغيير ثوري تقدمي ؛ هو بحد ذاته عملية معقدة مترابطة أيضا..تدخل فيها عملية صناعة وعي جديد بعد كشف الوعي السائد ؛ وبناء اقتصادي جديد وبناء قانوني ودستوري يحل مكان القديم ليحمي القيم الجديدة والمصالح الجديدة وأصحابها أيضا ..
ولضمان استمرار هذه المكاسب والمنجزات المتحققة لصالح الانسان ؛ وجب تصفية نفوذ القوى المتضررة من الثورة ومحاصرة تأثيرها على الأقل..وهذا يستوجب تفكيك شبكة مصالحها وعلاقاتها الإقتصادية وحتى تداخلاتها الإجتماعية المعيقة والمخربة..
كل هذا يعني ببساطة شديدة ان الثورة أصبحت بحاجة ماسة الى بناء دولة جديدة بكل ما فيها من قوانين ومؤسسات ومصالح وعلاقات ورؤى أيضا..
ولما كانت بنية الدولة في مصر ذات إمتداد بيروقراطي عميق الجذور وقد بنيت على يد القوى صاحبة النفوذ المطلوب تغييره والمصالح المطلوب تفكيكها نظرا لارتباطها بالقوى المعادية للثورة ؛ فقد وجدت الثورة نفسها في مواجهة هذه الدولة البيروقراطية وبنيانها اللاثوري المعبر عن مصالح الفئات الحاكمة النافذة المتسلطة…
وهكذا أضيفت هذه الدولة البيروقراطية الى صف القوى المضادة للثورة والمعرقلة لمسيرتها المتصدية لمكتسباتها وانجازاتها…وإن بغير قصد أحيانا…
ولضمان الاستمرار في عملية التغيير المطلوبة كان على الثورة ان تبقى مستقلة بذاتها عن كل تأثير لكل القوى المعادية لها..ولهذا كله أثمانا باهظة وإمكانيات هائلة يجب أن تدفع ..وعوضا عن استثمار كل الامكانيات البشرية والعينية في عملية البناء والتنمية ؛ كان لزاما تخصيص الجزء الكبير منها لعمليات حماية البناء من تعديات وتخريب القوى المعادية حتى المحلية منها..وهي قوى مرعبة من حيث الامكانيات أولا ومن حيث الحقد القاتل على كل من يحاول المساس بإحتكاراتها وامتيازاتها ومصالحها..
وهكذا إستنزفت امكانيات ضخمة وجهود جبارة في التغيير السلبي أي رد هجمات الاعداء لتقويض البناء الايجابي..
وحتى تستطيع الثورة الإستمرار في نهجها المستقل وجب عليها عدم الإنحياز لأطراف الصراعات الإستقطابية المحورية الدولية..فوجدت نفسها في خضم معركة عالمية لتأسيس نهج عدم الانحياز حفاظا على الاستقلالية من جهة ولحماية المنجزات بالمقابل..وهذا فتح آفاقا انسانية عالمية للثورة فأضاف عليها مهمات اضافية جديدة ومسؤوليات جسام تحتاج الى امكانيات مادية وبشرية معا…
أما وقد إستقر نهج الثورة في كل هذه الإتجاهات الرئيسية الكبرى وما ينبثق عنها من مهمات بنائية تفصيلية ؛ وجميعها تعاكس مصالح الغرب الإستعماري وأهدافه في المنطقة العربية والعالم..بل تشكل تهديدا مباشرا لها وتحديا لإرادته ؛ لا سيما زعيمة النظام العالمي الرأسمالي أي الولايات المتحدة الامريكية اكبر قوة اقتصادية وعسكرية وعلمية وسياسية آنذاك..فقد إستنفر الغرب الراسمالي كافة خبثه وعلمه واعلامه وامكانياته واجهزته وأدواته المحلية واذرعه العلنية والخفية لضرب الثورة واسقاط قائدها..
وهكذا أيضا فعل نظام سايكس – بيكو الإقليمي العربي صنيعة النظام الراسمالي العالمي واداته لعرقلة التحرر والتقدم العربيين..وبدوره استنفر كل قواه وإمكانياته ووظفها لإفشال الثورة وإسقاط قائدها..متضامنا مع كل قوى النفوذ الأجنبي وأذرعه الإقليمية..
وهكذا كانت مواقف الامميات الدينية واليسارية والنخب المنبهرة بالغرب والشرق أحدهما أو كليهما.. فقد عاندت الثورة وخربت في مسيرتها من الداخل لأنها كانت تنتمي إلى مواقعها الشعبية وقواها الإجتماعية..
كذلك دول الجوار الإقليمي ودولة العدو الصهيوني قاعدة الإستعمار العنصري الحاقد في قلب الأمة العربية..
كانت هذه قاعدة عريضة واسعة الإمتداد عظيمة الإمكانيات للقوى المحلية والعالمية التي حاربت الثورة وعرقلت مسيرتها بل إستماتت بكل معنى الكلمة لإفشال الثورة وإسقاط قائدها..
يا للهول ..رحماك يا الله !!!
جميع هذه القوى وهي التي تملك العالم تقريبا وتسيطر على ثرواته ومقدراته ؛ حاربت الثورة وقائدها…
فيما وقف قائدها وحيدا متسلحا بالشعب العربي وحده يواجه الدنيا كلها ليبني قوة عربية حرة مستقلة بإمكانيات مصر ومواردها المحدودة ..
وقف عملاقا شامخا يواجه بشعبه العربي أعتى قوى التسلط والتجبر والاستغلال والاستعمار ..
يا للهول ..
ثمانية عشر عاما فقط ومصر وعبد الناصر يتحدى الغاصبين الحاقدين الطامعين ببلاد العالم كله ؛ متسلحا بإرادة عظيمة وإيمان بالنصر أعظم يبني ويواجه ويحرر ويخوض المعارك في كل يوم وفي كل ميدان وفوق كل أرض عطشى للحرية ..يساند كل شعب يسعى للحرية في كل مكان من الكرة الأرضية وهو الذي يحكم مصر الفقيرة الشحيحة الموارد والمحاصرة من كل جانب..
كل هذا في غضون ثمانية عشر عاما فقط !!!
ويسألونك لماذا يعظم الضمير العربي جمال عبدالناصر ؟؟
ثم يتساءلون لماذا يستمر هجوم كل تلك القوى المعادية على جمال عبدالناصر ؟؟
ولماذا يتوهج جمال عبدالناصر أكثر فأكثر في الوجدان الشعبي العربي ؟؟
وحين مات أو قتل ؛ هل ترك منجزات تستحق الذكر ؟؟
وهل استطاع أن يبني قاعدة لنهضة عربية ؟
هل تشكل تجربته قاعدة علمية موضوعية للمستقبل العربي المنشود ؟؟
وهل غيَّر شيئًا في الواقع العربي والنفس العربية والإنسان العربي وهو الذي خسر معركة ٦٧ ولم ينجح في الإحتفاظ بوحدة ٥٨ ؟؟
هل كان دوره العالمي مثمرًا أو مفيدًا في الصراع من أجل حرية الشعوب المقهورة ؟؟
وهل يستحق كل هذا التبجيل والحنين الذي يحاكي الوله الذي يتباهى به الناصريون في كل أرض عربية ؟؟
نواصل لنرى ..
نعم تحليل موضوعي يتمتع بالمصداقية ويؤكد أن مستقبل هذه الأمة مرهون بخروج أتباع هذه الثورة المستحيلة من كهفهم الذي إعتكفوا فيه ومواصلة المسيرة التي توقفت قبل ٥١ عاماً ولكنها بقية كجمرة تتقد من تحت الرماد تنتظر نفخة من صدورهم ليشتد إوارها من جديد . الثورة الفرنسية لم تؤت أكلها إلا بعد عدة عقود والثورة الناصرية سوف تؤتي أكلها في وقت أقصر من ذلك بإذن الله.