عجيبٌ من أين يأتي لبنانيون “نظيفون” بهذه القدرة على تحقيق انتصاراتٍ انتخابيةٍ محلية، في نقاباتٍ وجامعات. سبب التعجب أمران: أولاً لأن مجتمع انتفاضة 17 تشرين (2019) عجز عن إنتاج حزبٍ أو تيارٍ لديه خطاب سياسي عام ومفصل في آن، وبرنامج متكامل، يواجه فيه السلطة وأحزابها ومؤسساتها وعصاباتها. ثانياً لأن تسرّب طاقات الطبقة الوسطى ونخبها أخرج من البلد نسبة هائلة من أكاديميين وأطباء وصيادلة وممرّضين ومثقفين ومحامين ومهندسين وتقنيين وخبراء معلوماتية وصحافيين ومشتغلين في باقي المهن الحرّة .. هم بشكل عام الأكثر تفلتاً من الطوائف وأحزاب السلطة، أي أنه، من دون ادّعاء إطلاق نظرية علمية في ظل غياب الأرقام والإحصاءات، يمكن الافتراض بأن مَن يهاجرون منذ عامين هم في غالبيتهم ممن يمكن تسميتهم جمهور انتفاضة 17 تشرين. بكلامٍ آخر ومبسَّط (وغير علمي)، يمكن افتراض أن من يبقى في البلد من جمهور السلطة وطوائفها وأحزابها ومليشياتها هم أكثر عددياً من المعسكر الآخر، معسكر أعداء السلطة ــ العصابة التي نُطيل عمرها في كل مرة نكذب فنقول إن لا ناس تدعمها ولا عمق اجتماعياً يسندها.
استحقاقات لبنانية عديدة جرت على امتداد العامين الماضيين، سجّلت انتصاراتٍ لم تُحزِن إلا حزب السلطة الأول، حزب الله، وباقي أركان ما صار يسمّى، على سبيل تسهيل النقاش، المنظومة الحاكمة التي يستحيل كسرها واستبدالها في ظل العزوف المتواصل عن السياسة والأحزاب عموماً في معسكر “17 تشرين” من جهة، وفي وجود مليشيا مسلحة اسمها حزب الله تمنع حدوث أي تغيير ديمقراطي في البلد.
في الأمس، اكتسح مهندسو “النقابة تنتفض” انتخاباتهم المهنية في بيروت، فأوصلوا نقيباً منهم (عارف ياسين) وغالبية ساحقة في مجلس النقابة وباقي الهيئات التابعة للإطار النقابي الأكبر في لبنان والأكثر نفوذاً، تليه نقابتا المحامين والأطباء. وفي نقابة المحامين فاز معسكر “17 تشرين” أيضاً قبل عام ونصف العام بنقيبٍ يقولون إنه منهم (ملحم خلف). وفي أكبر الجامعات، أي “الأميركية” و”اليسوعية”، سبق أن سجلوا في الأشهر الماضية انتصاراتٍ في وجه اتحاد أحزاب السلطة. ما الذي يمنع إذاً أن تنجح جماعة الانتفاضة الراغبة ببناء بلد طبيعي ودولة مواطنين، لا طائفية وديمقراطية، في انتخابات برلمانية عامة إن حصلت في موعدها ربيع عام 2022؟
في انتخابات الأطباء والمهندسين والمحامين واتحادات طلاب الجامعات في لبنان، تحضر القيود الطائفية غالبا، لكن على شكل أعرافٍ ليّنةٍ يمكن تجاوزها أو تعديلها أو الالتفاف عليها مثلما حصل في انتخابات نقابة المهندسين في بيروت قبل أيام، على عكس الاستحقاق البرلماني المرسوم بضوابط طائفيةٍ منصوص عليها في الدستور وفي قانون انتخابي لا مثيل له في العالم. ذلك قد يكون سبباً أولاً. ثم إن الانتخابات النقابية والجامعية والمهنية عموماً، يمكن حصر خطاباتها وبرامجها وأدبياتها وحملاتها في عناوين محليةٍ تتعلق مباشرة بالمهنة وشؤونها ومشكلاتها، مع عنوانٍ سياسيٍّ وطنيٍّ عريض يترك مجالاً لعقد اتفاقاتٍ وتحالفاتٍ بين تياراتٍ ومجموعاتٍ غير متفقة بالكامل سياسياً. حصل ذلك بوضوح في انتخابات المهندسين، يوم الأحد الماضي، إذ تحالفت 25 مجموعة من روابط “17 تشرين” على خوض المعركة معاً. 25 مجموعة من يمين ويسار ومنشقين عن أحزاب السلطة ومتضرّرين من حكم العصابة، لا طاقة لهم على حشد عشرات ومئات آلاف الأصوات لمرشّحين يختارونهم في استحقاق انتخابي. 25 مجموعة حشد أفرادها 5798 صوتاً لنقيبهم من أصل 8734 مهندساً، وهو رقمٌ يصعب أن يضاعفوه في استحقاق نيابي بموجب ما يعرف في لبنان بـ”تجيير” الأصوات، أي الطلب من كتلة ناخبة التصويت لمرشّح أو لائحة.
التغيير نحو دولة مواطنين، ديمقراطية علمانية لا سلاح مليشيات يحكمها، ولا سياسيين فيها تابعين لدول أجنبية، يحصل بالسياسة وبالأحزاب لا خارجهما، وإلا يكون تغييراً نحو الأسوأ. معاداة السياسة والأحزاب تحمل الجيش إلى الحكم بيدين لا ترتجفان.
المصدر: العربي الجديد