يعيش لبنان أزمة سياسية لا نهاية قريبة لها، أو بالأحرى أزمة لا تنتهي. ولا تزال تلقي بظلالها على تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية التي تنعكس سلباً على الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها معظم اللبنانيين، في ظل انفلات الشارع والارتفاع الجنوني للأسعار، وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار وسواه من العملات الأجنبية، وأزمات فقدان الدواء والوقود وانقطاع الكهرباء وشحّ المواد الاستهلاكية الضرورية، فضلاً عن تداعيات جائحة كورونا وسواها.
ويبدو أن لبنان يُراد له أن يسير “إلى جهنم”، حسبما قال رئيس الجمهورية، ميشيل عون، قبل نحو عام في ردّه على سؤال صحافية: إلى أين يتجه لبنان إن لم تتألف حكومة؟ وبالفعل، بعد نحو تسعة أشهر من تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة، اعتذر عن عدم تمكّنه من التأليف، وبالتالي لم تتشكل حكومة إنقاذ وفق مبادرة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ليواصل لبنان سيره نحو هاوية جديدة، خصوصا بعد الخطوات الكارثية التي اتخذت على المستويين، الاقتصادي والاجتماعي، وأوصلت لبنان نحو الخراب الاقتصادي والاجتماعي بوصفه مقدّمة لانهيار دولته التي يتحكّم بها زعماء الطوائف، فضلاً عن تقارير أممية ودولية بدأت تتحدّث عن البرادات الفارغة وجوع الأطفال والأسر اللبنانية.
جاء الفشل في تشكيل الحكومة اللبنانية تتويجاً لفشل ذريع لنظام المحاصصة الطائفية المتحكّم في لبنان، وتعبيراً عن أزمة النخب الأوليغارشية اللبنانية التي تتحكّم بمفاصل النظام والقضاء والمؤسسات البيروقراطية للدفاع عن ثروتها، ولا يهمها سوى حماية امتيازاتها ومصالحها المالية والتجارية، ولا يعنيها من المجتمع سوى أزلامها والمليشيات التي تنفذ أجنداتها، وتستخدمها وقوداً للدفاع عن نفوذها ومصالحها، وتعمل على تحشيدها تحت مختلف النعرات والعصبيات الطائفية والمذهبية والمناطقية.
وإذا كانت الخلافات بين عون والحريري قد حالت دون تشكيل حكومة تخلف حكومة تصريف الأعمال الراهنة برئاسة حسان دياب، التي استقالت في 10 أغسطس/ آب 2020، بعد ستة أيام من الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت، إلا أن هناك من يصف الخلافات بينهما بالمسرحية التي يُراد منها شدّ العصب المذهبي والطائفي، وتعويض الخسائر التي لحقت بكل منهما منذ حراك 17 تشرين الأول (2019)، ومحاولة لتخطي الاتهامات التي وجهها الحراك الثوري اللبناني إليهما.
ويأتي الفشل في تشكيل حكومة لبنانية في وقت يظهر أنه من الصعوبة بمكان إيجاد شخصية سنيّة متوافق عليها تقوم بمهمة التشكيل، الأمر الذي يجعل من لبنان الذي شهد 29 شهراً من الفراغ الرئاسي قبل انتخاب عون عرضة للدخول في مرحلة من الفراغ الحكومي الذي قد يدوم طويلاً، وسيكون لها مفاعيل وارتدادات على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في لبنان.
ويبدو أن النخب السلطوية والأوليغارشية لا يهمها أن تسير الأوضاع في لبنان إلى جهنم، وأن تبقى مسألة تشكيل الحكومة معلقة بانتظار المتغيرات والتطورات الإقليمية والدولية، وبالتحديد ما ستفضي إليه مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني، كونها ليست معزولة عن الصراع الجيوسياسي في المنطقة وعليها، ولبنان جزء من هذا الصراع. كما لا تكترث تلك النخب بتجاوز كل المهل لإنجاز التشكيلة الحكومية، ولا بسقوط المبادرة الفرنسية، ولا بتفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية لغالبية اللبنانيين، طالما أن ذلك كله لا يمسّ مصالحها، لذلك لم يتغير أي شيء في لبنان على الصعيد السياسي، على الرغم من توقع بعضهم حصول تغير ما في سلوك زعماء القوى والأحزاب الطائفية وقادتها بعد انفجار مرفأ بيروت الكارثي، خصوصا وأن ضحاياه من عامة اللبنانيين هم من دفعوا تكاليفه، وتوقفت إرهاصاته السياسية عند استقالة حكومة حسّان دياب، وبالتالي أصبح كلام الرئيس عون إن “لا غطاء سياسياً لمرتكبي جريمة تفجير المرفأ” لا معنى له، ولا يقنع أحداً.
وكان تكليف سعد الحريري في مهمة بدت شبه مستحيلة نتيجة الخلافات، قد جاء على خلفية فشل مصطفى أديب في تشكيل حكومة لبنانية، بسبب غياب التوافق في نظام المحاصصة الطائفية الذي أفشل جهوده ومساعيه. ولم تختلف كثيراً مماحكات التأليف الحكومي وتجاذباته، وقد بقيت أشهرا عديدة تدور في دوامة حلقة مُفرغة، وتتقاذفها الشروط التي كان عون ومن خلفه صهره جبران باسيل يضعانها، وخصوصا إصراره، مع حزبه السياسي، على امتلاك “الثلث المعطل”، والشروط المضادّة التي كان الحريري يضعها.
ولعل المفارق في الأمر أن كل زعماء نظام المحاصصة الطائفية في لبنان كانوا يطلقون تصريحاتٍ تظهر استعدادهم لتسهيل تأليف الحكومة، لكن كل ما كانوا يعلنونه فيها لم يكن أكثر من مجرّد كلام عابر، سرعان ما يتحطّم على صخرة التعطيل، لذلك بقيت مسألة التأليف عالقة ومرهونة بتدخلات القوى الإقليمية والدولية التي ربطتها بالمتغيرات والتطورات الدولية، فيما كانت كل القوى والأحزاب الطائفية تتدخل في أدق تفاصيل التأليف، وتبرّر تدخلها تحت ذرائع المشاركة الوطنية في التسميات والحصص الوزارية. لذلك لم تنفع زيارات مسؤولين عرب وأجانب عديدين في زحزحة مواقف القوى والأحزاب السياسية اللبنانية، حيث لم تنفع التحذيرات والضغوط الفرنسية من مغبّة التعطيل، كما لم تنفع الضغوط الأميركية والسعودية وسواها في تغيير موقف عون المستند إلى دعم حزب الله، كونه أراد من التصلّب في موقفه أن يكون مقدّمة لضمان أن يخلفه في رئاسة لبنان صهره جبران باسيل، الذي خلفه في رئاسة “التيار الوطني”، في خطوة تمهيدية للوصول إلى كرسي الرئاسة. لذلك يرى في حزب الله الذي أوصله إلى رئاسة لبنان الضامن الوحيد لوصول صهره أيضاً، وبالتالي لم يقم وزناً لمطالبات القوى الدولية التي كانت تشترط حكومةً فاعلةً توازن الأوضاع الاقتصادية والسياسية اللبنانية، كما لم يكترث بالتحذيرات التي صدرت عن وزيري الخارجية الفرنسي والأميركي، جان إيف لودريان وأنتوني بلينكن، من “زوال لبنان”، طالما أن لبنان “رايح ع جهنم” بالفعل.
المصدر: العربي الجديد