أعاد اعتذار الرئيس المكلّف سعد الحريري الأزمة السياسية في البلد إلى النقطة صفر، وتبدّدت الآمال بتشكيل حكومة إنقاذ تضع لبنان على سكّة المسار الإصلاحي. وفي انتظار معرفة موعد الاستشارات النيابية الملزمة التي سيحدّدها رئيس الجمهورية ميشال عون، تزدحم الأسئلة حول هوية من سيخلف الحريري تكليفاً وإذا كان سيحظى بمباركة بيت الوسط.
ولعلّ أحد الدروس المستخلصة من هذه الأزمة أن لا حكومة من دون ضوء أخضر من حزب الله، وكان واضحاً سعد الحريري في معاتبة الحزب على عدم ممارسته جهداً كافياً مع حليفه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لتسهيل تأليف الحكومة، وموجّهاً إليه رسالة صريحة بأن «الحليف ليس أهم من البلد». وما يسري على حزب الله يسري على المملكة العربية السعودية التي لا يمكن لأي رئيس مكلّف ولأي حكومة أن تنجح وتستقطب المساعدات من دون رضى السعودية. وهذا يطرح عملياً معادلة من هو القادر على إرضاء السعودية من دون أن يصطدم بفيتو حزب الله؟ ومن هو القادر على نيل رضى حزب الله من دون الاصطدام بفيتو من السعودية؟ وأي دور سيكون لفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ومصر وروسيا في ظل «عجز زعماء لبنان عن الاتفاق في ما بينهم والتدمير الذاتي الذي يقومون به» وفق تعبير وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان؟ ومن هو رئيس الحكومة المكلّف الذي سيتولى المهمة الانقاذية شبه المستحيلة في وقف الانهيار؟
وقبل كل تلك الأسئلة والأجوبة عليها، فإن هموم اللبنانيين باتت في مكان آخر، وأكثر ما يشغل بالهم هو كيف يخرجون من قعر جهنّم الذي أوصلتهم إليهم المنطومة الحاكمة مع بلوغ سعر صرف الدولار عتبات غير مسبوقة تجاوزت 23 ألف ليرة، وهل سيكونون قادرين على تأمين قوتهم اليومي وأدويتهم وطبابتهم والبنزين لسياراتهم؟ وربما أبعد من كل ذلك، هل سيبقى الأمن مضبوطاً أم ستحلّ الفوضى الاجتماعية وتهدّد الاستقرار، فيما المنظومة عينها لا تبالي إلا بما تحصده من حصص وزارية تحت شعار حفظ حقوق هذه الطائفة أو تلك أو دفاعاً عن صلاحيات هذه الرئاسة أو تلك.
فمع تقديم الحريري اعتذاره يدخل لبنان في المجهول ويصبح الباب مفتوحاً أمام كل المخاطر المعيشية والاجتماعية والسياسية والأمنية، وإن الاحتجاجات الشعبية التي تُسجّل بين منطقة وأخرى تنذر بالاتساع وبالتحوّل إلى تحركات عنفية في مواجهة السلطة المستهترة بمصير الناس والتي تغلّب مصالحها الخاصة على المصلحة الوطنية. لكن الأخطر هو أن تتحوّل هذه الاحتجاجات وما يرافقها من قطع طرقات حيوية كطريق بيروت الجنوب الحيوي لحزب الله عند نقطة الناعمة أو برجا إلى اشكالات طائفية ومذهبية.
وفي ظل هذه الأجواء الملبّدة بالغيوم الداكنة، تنفرج أسارير العهد بلَي ذراع الرئيس الحريري وعدم تمكينه من بلوغ السراي الحكومي، من دون أن يدرك كلفة هذا «الانتصار»على البلد الذي لم يشهد في تاريخه المعاصر انهياراً مماثلاً. وهذا العناد والتعنّت يذكّر بحالة التمرّد التي عاش مرارتها اللبنانيون عامي 1989 و1990 وتخلّلها حربان مدمّرتان قبل أن يستدرج عون تدخلاً عسكرياً سورياً في 13 تشرين الأول/أكتوبر أطاحت به من قصر بعبدا. والمفارقة أن هذه الذكرى التي شكّلت هزيمة للمسيحيين وكلّفتهم أثماناً غالية من الدمار والقتل والتهجير تحوّلت إلى ذكرى انتصار يتم الاحتفال بها سنوياً تحت شعار «يستطيع العالم أن يسحقني لكنه لن يأخذ توقيعي» وقد جرى تطبيق المعيار ذاته في عملية تأليف الحكومة، فبقي رئيس الجمهورية متمترساً وراء الثلث المعطّل وتسمية الوزيرين المسيحيين وعدم منح الثقة وصولاً إلى إمتناعه عن توقيع التشكيلة الحكومية حتى لو كانت الكلفة سحق البلد.
ويُضاف هذا الإنجاز إلى مسلسل التعطيل بالتحالف مع حزب الله بدءاً من توقيف تأليف إحدى الحكومات إلى حين توزير الصهر جبران باسيل الخاسر في الانتخابات النيابية في قضاء البترون، إلى التغطية المسيحية لسلاح الحزب والحرب المدمّرة في تموز/يوليو 2006 إلى تعطيل البلد لأكثر من سنة لتطيير حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، إلى تطيير حكومة الرئيس سعد الحريري بعد استقالة ثلث الوزراء من الرابية تحت حجة الشهود الزور، إلى إبقاء رئاسة الجمهورية في فراغ لأكثر من سنتين إلى حين القبول بانتخاب ميشال عون رئيساً، وصولاً إلى المغامرة اليوم التي قد تتحوّل إلى أزمة حكم واستعصاء في استشارات التكليف.
وما يستدعي التعجّب هو حالة الإنكار المتمادية لدى العهد الذي لطالما وعد «الشعب العظيم» بتسليم البلد أفضل مما تسلّمه، واعتباره أن «لبنان سيتجاوز الظروف الصعبة ولا شيء يجب أن يحبط اللبنانيين» إضافة إلى ذرف الدموع على اعتذار الحريري والتعبير عن الأسف والحزن بحسب أوساط التيار الوطني الحر التي لفتت إلى «أن نية التعاون معه كانت قائمة، بما ومن يمثل» وقولها بعد فوات الأوان إن «النيات كانت حسنة على عكس ما تمّ الترويج له، لو تمّ الالتزام بسقف الدستور والميثاق ووحدة المعايير، ولأن تسعة أشهر تقريباً ضاعت من عمر الوطن، كان يمكن استثمارها بالتكافل والتضامن بين الجميع لبدء مسار الخروج من الأزمة، عبر تطبيق الإصلاحات المعروفة وتأمين الدعم المالي الخارجي».
المصدر: »القدس العربي»