على ماذا يختلف السوريون اليوم؟ لا يقصد السؤال من السوريين هنا أهل السلطات، المستجدة منها والقديمة، فهؤلاء يشكلون نسبة ضئيلة جداً، ويحدّدون مواقفهم وخلافاتهم بناء على المصالح التي توفرها لهم سلطاتهم المعنية، وهي مصالح مستقلّة عن مصالح السوريين الذين تطحنهم الحياة بقسوة هذه الأيام، في كلّ مكان من سورية.
في بداية الثورة، كان السوريون يختلفون على الموقف من الثورة، أو للدّقة أكثر، كانوا يختلفون على المفاضلة بين واقعهم الذي كان وواقع آخر يتصوّره الساعون إليه من أهل الثورة واقعاً من حرية وكرامة، ويرى الرافضون أنّه ليس أكثر من خدعة ومؤامرة وكيد وسبيل يقود إلى ما هو أسوأ مما كانوا فيه. محور الاختلاف السياسي كان، والحال هذه، بين نزوع محافظ وجد أصحابه أنفسهم، من بعيد أو قريب، في خانة نظام الأسد، ونزوع ثوري أو تغييري وجد نفسه في الثورة المتفجّرة على نظام الأسد.
غيّرت السنوات السورية العشر الأخيرة الكثير في الوعي السوري العام بالقدر نفسه الذي غيرت في الواقع. لم يهدم العقد المنصرم البلاد فقط، بل هدم أيضاً طبقاتٍ سميكة من الوهم، كما لدى المحافظين كذلك لدى الثائرين. ثم عندما تبدّد الوهم كانت عناصر الواقع قد تبدّلت على نحو عميق، ولم يعد لانحلال الأوهام كثير نفع، ذلك أنّ مجريات العقد المنصرم راكمت في النفوس طبقاتٍ من الصدّ والتنافر بين السوريين لا يسهل تبديدها.
تكشّف للمحافظين السوريين (الطيف الذي يشمل جماعة الرفض القطعي للثورة وجماعة اللامبالاة وبينهما جماعة الحذر والخشية) أنّ المسار الذي اختاره النظام وفرضه في مواجهة الثورة أوصلهم وأوصل البلاد إلى حضيضٍ غير مسبوق، وإلى حالٍ أصبح معه وجود البلاد نفسه على المحكّ. وأنّ النتيجة الوحيدة لكلّ الخراب الذي حلّ بهم وبسورية هي نجاة طغمة الحكم، حتى الآن، من المصير الذي انتهت إليه طغم الحكم في الدول التي شهدت ثورات مماثلة.
لم يعد خافياً على من اتخذوا مواقف مسايرة لطغمة الحكم الأسدي، من منطق الحماية، أنّ حماية هذه الطغمة لهم من مؤامرةٍ، ومن خطر وشيك، كانت معكوسة، فالطغمة هي التي حمت نفسها بهم، أو أنّ الطغمة حمتهم وفق مبدأ يقول: “لكي أحميك ينبغي أن أقتلك”.
لم يعد ممكناً الدفاع عن الواقع المأساوي الذي يعيشه السوريون اليوم في ظلّ نظام الأسد، حتى في بازار النفاق لم يعد لهذا الكلام من يشتريه. وفي الوقت نفسه، لم يعد ثمّة واقع آخر مأمول، ليس لدى هؤلاء من خيار آخر. كأنّ الذين سايروا عن البطش الأسدي بالسوريين الذين شقّوا عصا الطاعة، أو سكتوا عنه، يكتشفون أنّهم اشتروا بؤسهم وضيق أحوالهم بدماء أبنائهم.
في المقابل، تكشّف لأنصار الثورة أنّ معارضة نظام الأسد لا تشكّل تلقائياً طريقاً مضموناً إلى الثورة، بل قد تكون طريقاً إلى تسلط رثّ جديد بكلّ ما ينطوي عليه من فساد وانحطاط في المعنى والقيمة. من نافل القول إنّ المعارضة ليست صفة محمودة بذاتها، بصرف النظر عن منطلقها والأسس التي تقوم عليها ومبتغاها. وجد أنصار الثورة أنّ المؤسّسات التي حملت اسم الثورة، وأتيح لها أن تمارس سلطتها، كانت أقرب إلى منطق الأنظمة منها إلى منطق الثورات.
يعيش ملايين السوريين اليوم خارج سيطرة الطغمة الأسدية في بؤسٍ شديدٍ لم ينجم فقط عن الأفعال الإجرامية لنظام الأسد من قصف وتهجير .. إلخ، بل أيضاً لأنّهم محكومون لسلطات فاسدة هي الأخرى، ومرتهنة لداعمين، ومشغولة في الحفاظ على ذاتها على حساب معيشة المحكومين وأمانهم وحريتهم. صحيح أنّه يمكن السؤال: هل يمكن لهذه السلطات، التي نشأت على ضفاف الصراع مع الطغمة الأسدية، أن تكون سوى ذلك؟ لكنّ الواقع السوري يقول، بصرف النظر عن هذا السؤال، إنّ السوريين يعيشون بؤساً متشابهاً في كلّ مكان، وإنّ طاقة التغيير الثوري قد تراجعت، وإنّ طبيعة الصراع قد تحولت من صراع بين إرادة شعب وإرادة سلطة مستبدّة إلى صراعٍ بين سلطات أمنية تقف وراءها سياسات ومصالح دول كبرى. يبقى السؤال: على ماذا يختلف السوريون اليوم؟ وما هي خطوط انقسامهم السياسية؟
خطوط السيطرة العسكرية هي التي تفصل اليوم بين السوريين وتمنحهم هوية سياسية كاذبة. إذا التقى أرباب أسر من مختلف مناطق سورية اليوم، ضمن أيّ تصوراتٍ يمكنهم الحديث، خارج الشكوى المباشرة من الحاجة وضيق ذات اليد وسيطرة الشبّيحة هنا وهناك؟ كيف يمكنهم أن يحاكموا واقعهم؟ قد يتلاومون على مواقفهم من المجريات الماضية، لكنّهم سوف يشتركون في رفض واقعهم الحالي. قد يختلفون في تقييم ما جرى في الماضي، لكنّهم سوف يشتركون في أنّهم مفقرون ومهمّشون هنا وهناك.
اللافت في الوضع الحالي للسوريين أنّ موقفهم من السلطات المستقرّة في مناطقهم أفضل من موقفهم من السلطات المستقرّة في المناطق الأخرى. يرى المحكومون في كلّ منطقة أنّ سلطة المنطقة الأخرى تشكّل تهديداً لهم، وأنّ السلطة القائمة في منطقته تحميهم من السلطة الأخرى، والحقيقة أنّ هذا التصوّر ليس موهوماً تماماً. كلّ سلطة تنظر إلى غلبة محكومي السلطة الأخرى على أنّها جرم. أو بكلام آخر، ترى كلّ سلطة أنّ محكومي السلطة الأخرى هم “حاضنة شعبية” لها، وبالتالي تضمر السلطات، على نحو متبادل، عداءً ليس فقط للسلطة الأخرى، بل ولمحكوميها أيضاً.
على هذا، بعد تموضع هذه العلاقة التي تشبك المحكومين بالسلطات بطريقة غريبة، لم يعد لتبدّد أوهام المحافظين حيال النظام، والثائرين حيال مؤسسات الثورة، مردودٌ سياسيٌّ يمكن التعويل عليه. إذا كانت الأوهام جزءاً مهماً من عدة الصراع في العقد المنصرم، فإنّ الوضع الانقسامي في سورية اليوم يمتلك عناصر استمرار مستقلّة عن الأوهام.
نحن اليوم أمام تقسيمٍ لا يقوم فقط على تنافر سلطات مفروضة، بل على قبول شعبي يغذّيه الخوف من الآخر، الأمر الذي ينتج نقطة تقاطع بين السلطة الحاكمة ومحكوميها. يحتاج هذا التقسيم قوة لتجاوزه، على خلاف التقسيم الفرنسي لسورية في بداية الانتداب الذي كان يحتاج قوة لفرضه، لأنّه كان ضد إرادة الغالبية الشعبية.
المصدر: العربي الجديد