لا أحد من السوريين يجرؤ على التوهّم بأنه بات من الميسور استبدال المعارضة الراهنة، بمعارضة او معارضات أخرى، ليقين الكثيرين بأن من يمسك زمام الحلّ والعقد في شأن المعارضات السورية ليسوا هم السوريون أنفسهم، بل أطراف إقليمية ودولية سعت منذ البداية إلى هندسة قوى المعارضة ( السياسية والعسكرية) وذلك وفقاً لما ينسجم مع مصالح تلك الأطراف ذاتها. ولن ترضى هذه الأطراف التي بذلت الكثير لترويض وتدجين المعارضات أن تفرّط بها أو تسمح بزوالها لمجرّد احتجاج السوريين على أدّائها وسلوكها، وبدرجةٍ من اليقين ذاته، يدرك معظم السوريين بأنه حتى لو استُبدلت المعارضة الراهنة بأخرى، فلن يكون بميسور تلك المعارضة الجديدة – في المدى القريب – أن تُحدثَ تحوّلاً نوعياً في مسار القضية السورية، ذلك أن أيّ مُنتَج وطني جديد سواءٌ أكان على المستوى السياسي أو الميداني أو الإنساني، فإنه يوجب حيازة أمرين إثنين: يتجسّد الأول باستعادة زمام المبادرة، أي القدرة على امتلاك القرار الوطني، وإنْ بقدر نسبي، ويتجسّد الثاني بالقدرة على التأثير في المواقف الدولية بغية إحداث بعض التغيير الذي من شأنه أن ينعكس إيجاباً على قضية السوريين، ولئن كانت حيازة أو تحقيق هذين الأمرين ليست مستحيلة، إلّا انها من جهة أخرى ليست بالمسألة اليسيرة، نظراً للراهن السوري الذي يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم.
وحيال هذا المشهد المُستغلق الذي تحوّل إلى مأزق حقيقي، تحتدم الرؤى والتصورات والأفكار حول سؤال : ( ما العمل ؟) ، ولتقصّي الإجابة عن هذا السؤال يمكن للمتابع أن يقف أمام إجابات عديدة ومتنوعة، تعكس أو تعبّر عن عمق الأزمة أكثر مما تُفصح عن بوادر حلول، وعلى الرغم من كثرة وسيولة القراءات والتحليلات والتصورات النازفة عن تداعيات هذا السؤال المُؤرّق، إلّا أنه يمكن اختزالها في تصوّرين، أو وجهتيْ نظر، أصبحتا تتدافعان على مساحات ممتدة من وسائل التواصل والمنابر الإعلامية المقروءة والمسموعة. تذهب وجهة النظر الأولى إلى ضرورة العودة إلى (البيت السوري للثورة) لترميمه وإعادة تقويم ما تصدّع من أركانه، ذلك أن هذا البيت، على الرغم من فقر محتوياته والوهن الذي أصاب حوامله، إلّا أنه لا بدّ من الانطلاق منه لأنه هو البؤرة التي نمت القضية بداخله وانطلقت منه، ويجب أن تعود إليه، ولا ضير إن كانت تلك العودة مصحوبة بحالة من (تصفير البرامج) إستناداً إلى مقولة: ما بُني على باطل فهو باطل. كما يعوّل أصحاب هذا الاتجاه على ما تبقى من حراك ثوري، و يعتقدون بأن جذوة الثورة لم تنطفئ، على الرغم من كثرة الرماد الذي تراكم فوقها، وما يلزمها هو قليل من الهواء النظيف لتعود شرارتها إلى التوهّج، وفي محاولة لتعزيز هذا المنحى، يردّ أصحاب هذا الاتجاه على من ينتقدهم بهدم ما تحقق من منجزات، بأن ما تحقق لا يعدو كونه كوارث حلّت على السوريين، سياسياً (مسار أستانا – سوتشي – اللجنة الدستورية) و عسكرياً( استعادة النظام لمعظم المدن والبلدات التي كان قد فقد السيطرة عليها) وإنسانياً : ( مئات الآلاف من المعتقلين والمغيبين قسرا ما يزالون في السجون، مئات الآلاف من النازحين في الداخل السوري)، إذاً حيال هذه المأساة التي يحياها السوريون على مدى عقد من الزمن، ما هو المُنجَز الذي يُخشى عليه من الضياع أو الهدم؟ ومما لا شك فيه أن وجهة النظر هذه، غالباً ما واجهتها إتهامات شتى، إذ طالما وُصفت من جانب مناهضيها بالدعوة الشعبوية أو العدمية، وفي أفضل الحالات أُطلق عليها بالدعوات الرغبوية أو الرومانسية، باعتبارها دعوات فاقدة للحوامل المادية لأفكارها، فهي تعوّل على القيم، وتدفعها الرغبات، ولكن الواقع ينطق بغير ما ترغب أو تفكر به.
وفي موازاة ذلك، ثمة وجهة نظر أخرى، يسلّم أصحابها بخروج القضية السورية من يد السوريين، وتحوّلها إلى حوزة الدول ذات النفوذ، وذات المصالح المتصارعة، وبالتالي فإن أي مسعى باتجاه إيجاد حل لقضية السوريين يجب أن يتوجّه إلى الدول صاحبة النفوذ، ومن العبث – وفقاً لأصحاب هذا الاتجاه – الالتفات أو التعويل على أيّة فاعلية سورية، سواء أكانت شعبية أم رسمية، فضلاً عن أن ما يمكن تداوله بين السوريين من احاديث عن إرادة الشعب السوري وعن الثورة وثوابتها وأهدافها لا يعدو كونه شعارات فاقدة لمحتواها، بل هي في أفضل الأحوال إنما تجسّد الحنين إلى حلم الثورة الذي اندثر تحت وطأة الصراع الدائر منذ عشر سنوات. لعل الواضح أن معظم أصحاب هذا الرأي هم ممّن يمكن تصنيفهم ضمن النخب السياسية أو الثقافية، كما أن غالبيتهم يتواجد خارج سوريا. ويمكن التأكيد على أن ما عزّز قناعة هؤلاء بصحّة وجدوى مسعاهم، هو الخطوة المثمرة التي حققها المجلس السوري الأمريكي، وإسهامه خلال سنوات في دفع الإدارة الأمريكية إلى فرض قانون قيصر على نظام دمشق. ولعل من أبرز الإنتقادات التي يواجهها هذا التيار هي السعي لتكريس التبعية، والدفع باتجاه المزيد من الارتهان للآخر، وكذلك السعي لفصل القضية السورية عن جذرها الشعبي والوطني، بل ثمة من يقول أيضاً: هل سفارات الدول هي جمعيات خيرية تفتح أبوابها لاستقبال المحتاجين والمعوزين، أم أنها تعمل لخدمة مصالحها التي لا تعبأ لسواها؟ وهل سنشهد في المرحلة المقبلة تحوّلاً كبيراً لنشاط المعارضة السورية يتمثل بالانتقال من الحيّز السياسي والإنساني والثقافي إلى حيّز العلاقات الدولية؟
ولئن كان وجود هذين التيارين أو الاتجاهين المتباينين من حيث الرؤية والتوجّه، يجسّد فداحة المأزق الذي انتهى إليه السوريون اكثر مما يدلّ على حالة صحّية من تعدد الرؤى و وجهات النظر، كما يدلّ من جهة أخرى على ابتعاد كلا الطرفين المختلفين عن موقع القرار والفاعلية الرسمية، فإنه لا يمكن أيضاً تجاهل طرف ثالث، ربما يتساوى مع نظيريه المختلفين من حيث شعوره بالعجز وعدم القدرة على إحداث أي اختراق لجدران الواقع، ولكن يختلف عنهما من حيث إنه لا يرى في الحالة الراهنة مأزقاً يستدعي أيّ قلق، وأعني أن (الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة) هو وحده الذي لا يشعر بأي قلق تجاه السؤال التقليدي : ما العمل؟ بل ربما نظر إلى السؤال السابق نظرة فيها الكثير من الشك والريبة، باعتباره سؤالاً يحمل في مضامينه إقراراً بعدم قدرة الإئتلاف أو فشله في تحقيق أي منجز يضع حدّا لاستمرار مأساة السوريين، وربما كانت هذه الريبة دافعاً أساسياً يجعل الهمّ الشاغل للائتلاف هو الحفاظ على كينونته كما كانت منذ تأسيسه، والدفاع عن هذه الكينونة التي تجسّد – على الغالب – دفاعاً عن مصالح مختلفة عن التي يسعى إليها التياران الأول والثاني.
ربما بدا السوريون ، على اختلاف انتماءاتهم وولاءاتهم ، يجمعهم – أكثر من أي وقت مضى – هم مشترك، يتمثل في استعداد نظام الأسد للتعايش مع كافة الاحتلالات القائمة على الأرض السورية في سبيل البقاء في السلطة، يوازيه استعداد مماثل من الإئتلاف ومشتقاته للتعايش أيضاً مع حالة البعثرة في صفوف المعارضة وكذلك التعايش مع المنصّات ذات التوجهات الجهنمية بغية الحفاظ على استمرار وجوده. وحدهم المواطنون الموجوعون من يرفض هذا التعايش، وهم وحدهم من يدفع ثمنه.
المصدر: تلفزيون سوريا