أن تُختزل الثورة السورية التي خلخلت أركان النظام، وجعلت مسألة رحيله، قبل نحو عقد، مسألة وقت، لولا تدخل رعاته وحماته لإنقاذه وبأي ثمن؛ في لجنةٍ دستوريةٍ كسيحة، وفي قرار خاص بآلية إدخال المساعدات الإنسانية ستة أشهر، يصدر عن مجلس الأمن بعد جولات من الحوارات والاتصالات، بغية إقناع الروس بعدم استخدام حق النقض (الفيتو)، أو التوافق معهم على الخطوات اللاحقة، من أجل تمرير مشروع تمديد القرار الذي لن يغير كثيراً من الوضع الكارثي المأساوي الذي يعيشه السوريون على مختلف المستويات، وفي جميع المناطق؛ أن تختزل الثورة هكذا، فهذا أمر لا تُحمّل مسؤوليته للمجتمع الدولي وحده، أو لمجموعة أصدقاء الشعب السوري التي كانت تمتلك من الأوراق والمشروعية في بدايات تشكيلها ما يمكّنها من التدخل، وإرغام النظام على الانصياع لإرادة القسم الأكبر من السوريين الذين كانوا يطالبون بالتغيير، وذلك في وقتٍ لم تكن الجماعات المتطرّفة الإرهابية قد ظهرت، ولم يكن الخطاب الطائفي البغيض قد طغى، وإنما كان الخطاب الوطني الجامع الذي يقرّ بالتنوع، ويحترم الخصوصيات والحقوق، هو المهيمن.
فالسوريون أنفسهم، خصوصا الذين تصدّروا المشهد في البدايات، يتحمّلون المسؤولية الكبرى بقراءاتهم الخاطئة، وأحكامهم المتسرّعة، وعجزهم عن فهم أبعاد استراتيجية النظام، وإخفاقهم في طمأنة سائر المكونات السورية؛ هذا إلى جانب الحالة التنافسية، والعقد النرجسية المتضخمة. فهذه “النخب” قد راهنت على تغييرٍ سريعٍ عبر ضغط شعبي ودولي، وتعاملت مع قضية شعبها الوجودية بعقليةٍ اتكالية، وانشغلت بمواقعها وحساباتها الشخصية والشللية، وكانت ضحية قلة خبرتها في ميدان فهم حسابات الدول ومعرفة طبيعة أولوياتها. ونتيجة ذلك وغيره، عجزت عن تشكيل “النواة الصلبة” التي كان من شأنها أن تكون في موقع القيادة الوطنية الناضجة المتماسكة، القادرة على تبديد هواجس جميع السوريين، والتحاور مع الجميع، واستيعاب الحساسيات والمعادلات الإقليمية والدولية، مع الاستمرار في اعتبار القضية السورية أولوية الأولويات بالنسبة إليها.
قبل تأسيس المجلس الوطني السوري (خريف 2011)، بُذلت جهود في مختلف الاتجاهات عبر المؤتمرات واللقاءات التي عُقدت في أماكن عدة؛ ومن خلال الاتصالات التي كانت تجرى بين المعارضين السوريين في المهاجر والوطن. وكان الاتجاه العام يضغط، ويطالب بتشكيل هيئةٍ وطنيةٍ تكون بمثابة القيادة للثورة السورية التي كانت تتصاعد مع الأيام، ويتّسع نطاقها في مختلف المدن والبلدات السورية؛ وتجسّد ذلك في المظاهرات والاعتصامات والمهرجانات التي كان من شأنها استقطاب الملايين، لولا لجوء النظام، منذ الأيام الأولى، إلى إطلاق النار على المدنيين العزّل، بغرض كسر إرادة المتظاهرين، وتهديد السوريين الآخرين الذين كانوا يمقتون استبداد النظام وفساده، ولكنهم كانوا يتحسّبون لوحشيته وجرائمه التي لا حدود لها.
ومع تشكيل المجلس الوطني السوري، لاحت في الأفق إمكانية تجاوز الثغرات الناجمة عن غياب القوى السياسية التي كان من شأنها تحديد المطالب، ووضع الخطط والبرامج لبلوغها. وبُذلت جهود كبيرة من أجل توسيع قاعدة المجلس، وكانت الحوارات مع مختلف القوى السياسية والمجتمعية للانضمام إليه؛ وكنّا نؤكد باستمرار أن المجلس مشروع وطني غير ناجز، مفتوحٌ على الجميع. ولكن “النرجسية السورية”، والحسابات الشللية، والنفس القصير، والاستعجال في بلوغ موقعٍ ما طالما أن التغيير على الأبواب وفق القراءات الخاطئة المشار إليها؛ كل هذه العوامل، وغيرها، أدّت بمعارضين سوريين عديدين، لا يُشكّك في نزاهتهم ووطنيتهم، إلى التحرّك من أجل مشاريع بديلة، في وقتٍ كان في مقدورهم تركيز تلك الجهود ضمن المجلس ذاته، حفاظاً على وحدة الموقف الوطني.
وقد نبهنا مراراً وتكراراً إلى خطورة تلك المحاولات، على الرغم من النيات الحسنة لأصحابها، ولكننا لم نتمكّن بكل أسف من إقناعهم، خصوصا بعد أن تلقوا وعوداً بدعمٍ لم يجد طريقه إلى التطبيق على أرض الواقع من قوى دولية لم تكن في وارد الموافقة على التغيير السياسي الذي كان المجلس يشدّد عليه بناء على مطالب غالبية السوريين وتضحياتهم. وقد عبرنا عن هواجسنا في ذلك الحين بصراحة، وشكّكنا في وعود مجموعة أصدقاء الشعب السوري بكل وضوح، في المؤتمر الثاني للمجلس في الدوحة (نوفمبر/ تشرين الثاني 2012)، وقلنا وقتها إن أصدقاءنا، على كثرتهم، لم يتمكّنوا من إصدار قرار، مجرّد قرارٍ يدين جرائم النظام في مجلس الأمن، ويدعو إلى محاسبته. هذا في حين أن أصدقاء النظام، على قلتهم، يمدّونه بكل شيء؛ يمدّونه بالمال والسلاح والرجال، ويحرصون على تغطيته سياسياً باستمرار في مجلس الأمن. كما قلنا صراحة، في ذلك الحين، إن أي مساس بالمجلس الوطني السوري معناه إطالة عمر النظام، المسؤول الأول عن قتل السوريين وتهجيرهم وتدمير بلدهم. وهذا ما حصل. لم نكن نقرأ الغيب، وإنما كنا نستند إلى ما نشاهده ونسمعه ونتابعه، ونتوصل إليه بموجب الاستنتاجات المنطقية المبنية على معرفتنا بتاريخ هذا النظام، واطّلاعنا على شبكة علاقاته الدولية، والأدوار الوظيفية التي تم تكليفه بها تباعاً في المنطقة.
وجاء تشكيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية (نوفمبر/ تشرين الثاني 2012) الذي وافقنا عليه على مضض، وعلى أمل أن تكون المصلحة السورية على رأس قائمة أولوياته. ثم سرعان ما تغيّرت الموازين بعد تدخل الدول، فأصبحت الحسابات الشخصية والشللية هي الموجّهة، وبرزت ظاهرة الكتل الانتخابية الوهمية؛ وبدأ الاستقواء بوعود الدول وتوجهاتها، حتى وصلنا إلى مرحلة المبادرات الفردية من دون أي مرجعية. وتشكلت المنصات، وهكذا إلى أن وصلنا إلى مرحلةٍ باتت فيها الإرادات جميعها في هيئات المعارضة السورية الرسمية مكبلة بإرادة الرعاة والداعمين.
وقبل أيام، كان هناك اجتماع أستانة 16، وهو يندرج ضمن سلسلة اجتماعات المحور الذي جمع فيه الروس بين إيران وتركيا (تحت مسمى الدول الضامنة) من أجل الالتفاف على بيان جنيف، وتجاوز موضوع هيئة الحكم الانتقالي الذي نص عليه البيان (30 يونيو/ حزيران 2012). فقد حضر ذلك الاجتماع وفد باسم المعارضة، ولكن ليس من المعروف الجهة التي يمثلها هذا الوفد في المعارضة السورية. هل هو يمثل “الائتلاف” أم الهيئة العليا للمفاوضات السورية أم المنصات المتناثرة؟ الجميع يلتزم الصمت، حفاظاً على المواقع الوهمية.
هناك حراك سوري لافت، يقوم به نشطاء سوريون في مختلف الأماكن، على صعيد توثيق جرائم النظام، ورفع الدعاوى القضائية على عناصره ممن اقترفوا الجرائم بحق السوريين. وهناك جهود كبيرة في ميادين الإعلام والإغاثة والحركة النسائية؛ ولكن كل هذه الجهود لن تعطي ثمارها المرجوّة، ولن تصبّ نتائجها في مصلحة القضية السورية الكبرى كما ينبغي، في غياب القيادة الوطنية الجامعة الناضجة القادرة على توحيد مواقف السوريين، وتحديد الأهداف الرئيسة والفرعية والأولويات، وتوزيع العمل، واستثمار الجمهود، والبناء على تراكم الخبرات، ورسم السياسات. هناك محاولاتٌ في الداخل في هذا الاتجاه أو ذاك. ولكن كل هذه المحاولات تظل ناقصة، لن تؤدّي إلى المطلوب ما لم يتم التخلّي عن النزعات الشخصية، والمكاسب الحزبية أو الشللية ضيقة النطاق والأفق. وفي المقابل، إذا ما تم الاستمرار على هذا الوضع الذي نحن فيه، فسيتابع الانتهازيون والمتسلقون جهودهم التي لم ولن تخدم السوريين بشيء، وستظلّ معاناة الأهل في المخيمات، سواء في الداخل الوطني أم في الجوار الإقليمي؛ وهي معاناة بدأت تستفحل، وتأخذ أبعاداً مأساوية كارثية، تتمثل في أميةٍ مرعبةٍ بين الأطفال، وأمراضٍ مزمنة، ومشكلاتٍ اجتماعية على غاية الخطورة. والأفظع من هذا كله انعدام الآفاق بعد أن تحوّل الوطن إلى مناطق نفوذ، تتحكّم فيها الدول الكبرى والإقليمية التي تعتمد ميدانياً على مليشيات وافدة، وأخرى محلية تتحكّم بمصائر الناس وموارد البلاد، بينما يتهاوى الوضع الاقتصادي والمعيشي في جميع أنحاء سورية ومن دون أي استثناء.
يحدُث ذلك كله في سورية؛ ومع ذلك يُلاحظ أنه ليس للروس من شاغلٍ سوى تسويق بشار الأسد بعدما انتهوا من عملية إعادة تدويره. مع علمهم، وعلم الجميع، بأنه كان السبب وراء كل ما حصل، ويحصل، في سورية من قتل وتهجير وتدمير وانهيارات على المستويين، المجتمعي والعمراني.
المصدر: العربي الجديد