راما يوسف الحاج علي، كاتبة سورية، وهذا أول عمل أقرأه لها.( يرحلون ونبقى)؛ لقد سُمّيت رواية، لكنها كانت أقرب للشهادة الذاتية عن واقع الثورة السورية، كما عاشتها الكاتبة التي كانت في بداية مراهقتها، من واقع عيشها مع أسرتها في الغوطة الشرقية، مدينة عربين تحديدا.
تبدأ الرواية “الشهادة” بطريقة الخطف خلفا السينمائية، حيث تعيش راما في مدينة مرسين التركية، تحمل معطفا ابيضا يرتديه طلاب الطب، إنها في الثانية و العشرين من عمرها عام ٢٠٢٠م، تبدأ رحلة دراستها للطب تتذكر والدها وتاريخها، تعاهد طيف والدها الشهيد بأنها ستسير على الطريق الذي أراده لها ولاخواتها لكي يكنّ طبيبات.
راما تنتمي لأسرة مؤلفة من الوالد يوسف، الذي كان قد درس في معهد الفتح الإسلامي، ثم أكمل دراسته في جامعة الأزهر القاهرية، وعاد ليكون خطيبا وإماما في جامع عثمان بن عفان في عربين، الأم مريم تعمل مديرة في مدرسة، لها أربع أخوات ، وهي الثالثة في تسلسل العمر. يعاملهم الوالد والوالدة بأعلى درجات الحب والإحترام. والدها مثقف وقارئ نهم، لديهم مكتبة كبيرة، كبروا جميعا على حب القراءة والإطلاع، وحصول جلسات حوار ومناقشات عائلية حول ما قرؤوا جميعا.
تنتقل راما للحديث عن بداية الثورة السورية من مدينة درعا، والكتابة على جدرانها ” اجاك الدور يا دكتور” كرمز لإسقاط رأس النظام المستبد السوري، وتعذيب الأطفال وقتلهم والتمثيل بهم. ثم انتقال الربيع السوري؛ الذي أصبح ثورة الى بقية مدن وبلدات سورية ومن جملتها الغوطة ومدينة عربين فيها. كان لإستعمال السلاح والعنف من قبل النظام نتائج مباشرة سواء لرفع وتيرة المطالب الثورية من الاصلاح الى اسقاط النظام، وتحول الثورة من التظاهر السلمي إلى بداية العمل المسلح لبعض المجموعات المنتمية للثورة، وكان منعكس ذلك على الغوطة وعربين أن بدأت صراعا مع النظام ادّى لتحرير الغوطة في الشهر السابع من عام ٢٠١٢م. كان قد اعتقل يوسف والد راما قبل ذلك بحوالي الشهر. يوسف إمام مسجد عربين، وهو يعلم أنه لا يوجد في هذه الوظيفة الا المرضي عنه من النظام، وأن هناك متابعة أمنية له ولخطبه، فهناك المخبرين، ورجال الأمن الذين يحضرون أوقات خطب الجمعة، ويحصلون على نسخة الخطبة مكتوبة. كان ذلك بالنسبة ليوسف أمرا مفروضا، يقبله لأنه لا طريق آخر للتوجيه الديني العلني للناس غير ذلك. لكن في ظرف الثورة، لم يعد يداري الكثير من الخطباء في خطبهم النظام ويصمتوا عنه، ولم يعودوا يدعمون النظام ويبرّروا أفعاله، واعلنوا دعمهم لمطالب الشعب والمتظاهرين، بالحرية والكرامة والعدالة. لذلك حضرت قوة أمنيّة كبيرة الى بيت يوسف والد راما واعتقلته، وذهب دون عودة.
يمثل يوسف والد راما نموذجها الأعلى، وهي في بداية مراهقتها ونضجها، كان لإعتقال والدها وقعا نفسيا وحياتيا قاسيا على العائلة وعليها، لكن والدتها وقفت بقوة بوجه المُصاب وأثبتت جدارة الأم المسؤولة، لقد أفهمت بناتها أن الإخلاص لوالدهم، يعني أن ينجحن في دراستهنّ وحياتهن، ويفتخر والدهن بهنّ في غيابه وحضوره. انتقلت راما والعائلة للعيش في بيت جدها والد أمها. تحررت الغوطة بعد اعتقال يوسف والد راما بحوالي الشهر، يعني في الشهر السابع من عام ٢٠١٢م. وكانت امتحانات الشهادة الاعدادية عند راما في الشهر الثامن، هذه اول تجربة من التحدي امامها. الحصار والقصف الدائم ونقص المواد الغذائية، هذا ماعاشه اهلنا في الغوطة، لكن راما تجاوزت كل ذلك وحضرت الامتحانات ونجحت بتفوق. اهدت نجاحها لوالدها يوسف، الذي كان صديق روحها الدائم، الحاضر كل الوقت، تربط بينه وبين النبي يوسف في قصص القرآن، وتنتظر عودته لهم سالما.
تابعت راما يوميات الحصار والقصف ونقص الغذاء والشهداء الكثر الذين يقعون في الغوطة وبلدتها عربين.
كان يوم ٢١ آب من عام٢٠١٣م يوما كارثيا على أهل الغوطة، لقد قصف النظام الغوطة بالكيماوي “غاز السارين”، وراح ضحيتة حوالي ١٥٠٠انسان من أهل الغوطة، كان منهم جدّ راما وعمتها. كان ذلك فوق طاقة أهل الغوطة وتحملهم، خاصة بعد أن صمت المجتمع الدولي عن جريمة الكيماوي، وتنازل عن الخط الأحمر المدعى، وتم نزع السلاح الكيماوي من يد النظام، وكأن هناك قرار دولي يسمح بقتل الشعب السوري بكل الوسائل الا الكيماوي. زاد الحصار على الغوطة ونقص الماء والغذاء، اشتد القصف والضحايا يزدادون يوما بعد يوم. استمرت راما واخوتها في رحلة التعلم، ومرت السنين عليهم وقدمت امتحانات الثانوية ونجحت بتفوق، هاهي تقترب من حلمها بدراسة الطب. شاركت راما في كثير من مناشط الثورة داخل الغوطة ايام الحصار، فقد شاركت في المشفى الميداني في بلدتها، ودخلت في دورات تدريب على صناعة الأطراف الإصطناعية، فالقصف الدائم يورث شهداء ومصابين ومعاقين يحتاجون لاطراف صناعية. كما انها دخلت في دورات اسعاف اولي، وبدأت بمتابعة دروس في الطب عن طريق الأنترنت، مع أطباء موزعين في جميع انحاء العالم، اصروا على القيام بدورهم مع اهل الغوطة الذين حوصروا لسنوات عدة. لم يستسلم الناس في عربين لحالة الحصار، استمروا يقاومون بالحد الأدنى الذي يستطيعونه. كان خال راما عضوا في تنسيقية عربين، يعمل والآخرين لخدمة الناس والثوار. وكان للتدخل الروسي بالعمل العسكري بدءً من عام ٢٠١٥م، دورا بتحول حياة الناس الى جحيم لا يطاق. استعان الناس عليه بحفر شبكة انفاق تحت الأرض تصل بين بين اقبية الأبنية، بحيث استعاض الناس حياتهم تحت الارض بدلا من فوقها. كان النظام وبدعم روسي ايراني قد قرر أن يجتاح الغوطة بأي ثمن ولو على ركام بلداتها وعلى جثثهم وأشلائهم. ظهرت المجموعات المسلحة من شباب الغوطة، لم يكونوا بالنضج الكافي، ووقعوا ضحية صراعاتهم البينية، وصراعات داعميهم. كان ذلك طعنة في قلب الثورة ونقائها الأول، فالناس ينتظرون بندقية تمثلهم وتحميهم، لكنها انحرفت عن ذلك، خاصة بعد ظهور جبهة النصرة وسيطرتها على بعض المواقع. استمر القصف وزادت قوته، بحيث دمرت الأنفاق تحت الارض، وانعدمت إمكانية تكيف الناس مع واقعهم الجديد. الحصار القاتل، لقمة العيش المعدومة، وتكدس الناس في الملاجئ اكثر من طاقتها لإستيعاب الناس، الخارج منها لأي سبب سيكون ضحية موت محتمل. ظهرت تجارة الحروب ومن يعيش على مأساة الناس وحصارهم. من خلال رفع جنوني لأسعار بعض المواد الضرورية. كما ضرب النظام بعض المناطق بغاز الكلور وادى لإستشهاد البعض. استسلمت بعض البلدات باكرا للنظام، مثل القابون وبرزة، وخضعت للتسويات والتهجير الى الشمال السوري.
انخرطت راما بالعمل الاسعافي والطبي، وسميت راما “أطراف” لكونها تعمل في صناعة الاطراف وتركيبها. كما عايشت راما بعض الولادات الجديدة التي جاءت مشوهة نتيجة ضرب الكيماوي.
في اول عام ٢٠١٨م وبعد مضي سنوات على غياب يوسف والد راما، وصل اليها وأهلها أخبار عن والدها، وذلك مع أحد الخارجين من معتقل الفرقة الرابعة، حيث دونوا اسماء المعتقلين على قميص ارتداه أحدهم كان خرج من الموت. اطمأنت راما والعائلة على والدها، إنه حي رغم أنه كان يعيش حياة الجحيم. واستمرت تنتظره، فهو الأب النموذج والمثل الأعلى.
استمرت راما بتعلم الطب عبر الأنترنت، كما شاركت في تعلم صناعة الاطراف وتركيبها لمن يحتاجها من أهل الغوطة الواقعين تحت الحصار. وانتقلت بين عربين وسقبا وحمورية تعمل مع الطواقم الطبية. في هذا العام ٢٠١٨م دخلت راما عامها العشرين، وازداد الحصار ونتائجه المأساوية على حياة الكل، كذلك القصف الذي تنوع بين البراميل المتفجرة وصواريخ الفيل والنربيج وكلها تعمل لتدمير البلدات وقتل اهلها. بدأت تسقط بلدات الغوطة تباعا. فقد سقطت حمورية وسقبا وكفر بطنة وعين ترما ومسرابا. وبقيت عربين وزملكا ودوما صامدة، لكن جحافل الموت تتقدم رويدا رويدا على جسد الغوطة واهلها.
في ٢٣ آذار من عام ٢٠١٨م. انتصر النظام على اهل الغوطة، وفرض على المقاتلين اتفاق الترحيل الى إدلب في الشمال السوري.
غادرت راما مع امها واخواتها مع المرحلين الى إدلب، وما إن وصلوا الى هناك حتى قرروا التحرك الى تركيا لصناعة حياة جديدة. كانت تركيا قد أغلقت بابها لإستقبال المزيد من السوريين، بعد أن دخلها الملايين. شددت على الحدود وأصبحت تعيد الى سورية كل من تقبض عليه محاولا الدخول الى اراضيها. حاولت راما وعائلتها الكثير من المرات، عبر مهربين وجدوا بمأساة السوريين فرصة لهم لسرقة ما تبقى معهم من مال قليل بعدما خسروا الوطن. فشلوا في الكثير من المرات للعبور الى تركيا، وتجرعوا سطوة جبهة النصرة في ادلب، لكنهم لم يستسلموا، تعبوا في محاولة العبور واصيبوا بجروح. استطاع بعض العائلة الوصول قبل بعضهم، وكان آخر من وصل الى انطاكية في تركيا راما وأمها. التمّ شمل العائلة مجددا، يفتقدون للأب يوسف، يرفضون الحياة في المخيمات. يغادرون إلى مرسين وهناك يبدؤون حياة جديدة، وتبدأ راما واخواتها رحلة تعلم اللغة التركية، كمدخل الى الدخول في الجامعة وإكمال حلمها وحلم والدها في دراسة الطب.
في عام ٢٠١٩م تحاول الفنانة الكندية “ديانا ويمار”، أن تصنع نموذجا للقميص الذي خرج من السجن وتدون عليه اسماء المعتقلين ومنهم يوسف والد راما، تشارك به في بعض المعارض الفنية تذكيرا بالمعتقلين السوريين وانتصارا لهم.
في عام ٢٠١٩م وصل الى راما والعائلة خبر من احد أعمامها أن النظام قد ارسل لهم معلومات عن وفاة والدها يوسف في المعتقل عام ٢٠١٤م. كان ذلك طعنة في حلم العائلة وأملها أن يخرج والدها سالما ويلتحق بهم. كانت فاجعة راما كبيرة، وسرعان ما تجاوزت محنتها، وقررت العمل والنجاح لتكون نموذجا لوالدها الذي تحبه، فوق كل تصور.
تبدأ راما رحلة الدراسة الجامعية، وكذلك اخوتها من خلال رعاية والدتها واهتمامها، وتصنع من نفسها طبيبة. تحارب كل الوقت اطياف الماضي وما عاشته في ذاتها. لعلها تنتصر لانسانيتها ونفسها.
في التعليق على الرواية أقول:
نحن أمام سيرة ذاتية، أقرب لشهادة متميزة عن الثورة السورية، فيها نكهة صاحبتها، الفتاة التي كبرت ونضجت في واقع الثورة، الفتاة التي انتمت بكليتها لهذه الثورة ولمطالبها الحقة بالحرية والكرامة والعدالة والحياة الأفضل. كانت الشهادة – السيرة، سجّلا خاصا جدا من خلال ذاتية الكاتبة وما عاشته، وكانت عامة جدا من خلال التحدث عن واقع ماعاشه الناس اهلنا في الغوطة وخاصة عربين. خلّدت الحدث التاريخي للثورة السورية ومنعته عبر سنوات من أن يدخل في النسيان او النكران. سلطت عليه الضوء وحولته عبر شهادتها، الى سجل خالد لأسوأ مأساة عاشها شعب، وأعظم تحدي ومقاومة وتضامن وتضحية عاشه ذلك الشعب في الغوطة ايام الثورة ، وفي الحصار والترحيل والإصرار على التحدي وبناء الحياة الأفضل حيث نكون، في تركيا أو بلاد المنافي في كل العالم.
تتميز السيرة – الشهادة بلغة وجدانية حاضرة بتدفق ومصداقية، ممتلئة بمعلومات من فتاة بهذا العمر، وهذا يعني أنها تعبت على نفسها كثيراً كإطلاع وثقافة. التداخل بين العام والخاص رائع في كل مراحل تدوين راما لشهادتها. اعطت للثورة وللمعاش في الغوطة لونها الخاص وانطباعاتها الذاتية، بحيث كانت حكاية الغوطة مجبولة بدم ناسها ومشاعرهم. هكذا فعلت راما يوسف الحاج علي. شكرا لك راما، والى مزيد من الإبداع.