ثلاثة مشاهد في سوريا خلال الشهور الماضية، تُوضح مدى الطموحات الروسية في هذا البلد على مستويات متعددة منها الاقتصادي والثقافي أيضاً. الأول هو مشهد أطفال سوريين ينشدون بالروسية أمام جنود روس لمناسبة “يوم روسيا” الشهر الماضي. ذاك أن مادة اللغة الروسية باتت تُدرّس في بعض المدارس السورية، في إطار النشاط الثقافي الروسي الذي يعتمد غالباً على المواطنات الروسيات المتزوجات من سوريين، وعلى خريجي الجامعات السوفياتية، وهم 35 ألفاً وفقاً لبعض التقديرات وينتشرون في مختلف أنحاء سوريا.
وبحسب وكالة الأنباء السورية (سانا)، أدرجت السلطات مادة اللغة الروسية ضمن المناهج التربوية تجريبياً في العام الدراسي 2014-2015، إلا أن عدد الطلاب ارتفع على مدى السنوات الماضي حتى بلغ “31 ألف طالب في 217 مدرسة موزعة على 12 محافظة فيما الكادر التدريسي لم يتجاوز حتى اليوم 190 معلم لغة روسية”.
المشهد الثاني هو عمل مجموعة من العلماء والخبراء الروس في مجال الآثار (معهد الثقافة المادية التابع لأكاديمية العلوم الروسية) على إعداد نموذج رقمي لمدينة أفاميا القديمة وكنائسها شمال غربي حماة، بحسب قناة “tvzvezda” (تعريب موقع عنب بلدي منتصف الشهر الماضي). ووفقاً للتقرير، استخدم الخبراء الروس “تقنيات الاستشعار عن بُعد للكشف داخل التربة، وطائرات دون طيار مزوّدة بكاميرا حرارية، للكشف عن الجدران المغمورة بالتراب (تحت الأرض)، بحسب الباحث إيغور بلوخين”.
وهذا ليس مجهوداً صغيراً، بل يأتي ضمن مشروع مدته سنتان يهدف الى درس الكنائس القديمة وانشاء بيانات رقمية عن حال الآثار المعمارية، بحسب موقع “عنب بلدي” السوري، إذ أن هناك اهتماماً روسياً في إدارة الآثار السورية والتنقيب عنها بشكل أوسع، بدأ في السنة الثانية من التدخل الروسي (2016) حين طُرح مشروع لاعادة بناء المناطق الأثرية المدمرة. كما تحدثت تقارير عام 2019 عن اهتمام روسي في التنقيب عن الآثار في ساحل طرطوس بعد توقيع اتفاق للتعاون بين حاكم مدينة سيفاستيبول الروسية دميتري أوفسينيكوف ومحافظ طرطوس صفوان أبو سعدى.
المشهد الثالث والأخير هو زيارة نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف الى سوريا نهاية الشهر الماضي على رأس وفد حكومي واقتصادي روسي، واجتماعه مع الرئيس السوري بشار الأسد. البيان الرسمي للزيارة كان واضحاً لجهة تركيز الحديث بين الأسد وبوريسوف “على الصعيد الاقتصادي والاستثماري والجهود المشتركة لتوسيعه ليشمل مجالات إضافية وكذلك التعاون في مجال الطاقة والتقنيات الحديثة والصناعة والزراعة”. بوريسوف تطرق الى التمهيد لانعقاد الدورة الـ 13 للجنة السورية الروسية المشتركة للتعاون التجاري والاقتصادي والتقني والعلمي، من خلال تطبيق الاتفاقات السابقة وتوسيع أطر التعاون الاقتصادي والتجاري والصناعي والزراعي والاستثماري والجمركي والطاقة والنقل البحري والسكك الحديدية والاتصالات والتقنيات الرقمية والمنتجات الطبية والأدوية، “وكذلك تسهيل وصول السلع الروسية إلى السوق السورية”.
وفقاً لموقع “تقرير سوريا” الاقتصادي، تولت هذه اللجنة عام 2018 تسليم مرفأ طرطوس الى شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية المملوكة من أحد أزلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأعطت عام 2019 رخصة التنقيب عن الغاز والنفط لشركة روسية في سواحل سوريا. لهذا، من المتوقع أن يُفضي اجتماع اللجنة الى اتفاقات جديدة لمصلحة روسيا.
عملياً، تُخطط روسيا لدور طويل المدى وهيمنة على مستويات متعددة في سوريا، لا تقتصر على النفط والغاز، بل تشمل الشق الثقافي (الآثار والتعليم) والدخول الى مختلف مناحي الخدمات والاقتصاد من إدارة المرافئ والفوسفات، إلى مجال الاتصالات وإعادة الاعمار والسياحة أيضاً. هي طموحات واسعة وربما أكبر من أن تتحقق في بلد محدود الموارد مثل سوريا، حتى بعد التطهير العرقي لسكانه من المناطق المنتفضة على النظام، ولو أن القوات الروسية باقية لأمد غير منظور. ذلك أن الدور الروسي بات أشبه في معالمه واتفاقاته الواسعة والطويلة الأمد ولجانه المشتركة، باستعمار من بدايات القرن العشرين، لا يخلو من صلافة وقصر نظر، تُخفي هفوات كبيرة لن تتأخر كثيراً.
المصدر: المدن