ازدادت معاناة الطبقة العاملة في الشمال الغربي لسوريا من جراء ارتفاع اﻷسعار بشكل كبير، وثبات اﻷجور القليلة أصلاً؛ مع الضعف المستمر في القدرة الشرائية للعملة التركية.
ولا يقتصر اﻷمر على الفئات اﻷضعف في المجتمع، حيث يشكو التجار أيضاً وأصحاب المحال التجارية من أزمة اقتصادية خانقة، لها عدة أوجه، ومن ضمنها تقلب سعر الصرف لليرة التركية أمام الدولار، وانخفاضه المستمر، وإِنْ كانت اﻷمور – وفقاً لكثير من اﻵراء – أفضل منها بعد إخراج الليرة السورية بشكل شبه كامل من التعامل اليومي.
جذور اﻷزمة
إضافة إلى حصيلة قاسية من سنوات الحرب التي يشنها نظام الأسد على السوريين منذ عام 2011، فقد شهد العام الماضي كثيراً من التغيرات التي أثرت سلباً على الوضع المالي والمعيشي للسوريين شمال غربي البلاد، وبمعزل عن العملة الجديدة؛ فقد خسر الشمال مساحات واسعة جداً بما فيها من أراضٍ زراعية ومحاصيل مهمة كالزيتون والفستق الحلبي وغيرها من المزروعات المتنوعة، إذ إن الأهالي يعتمدون على الزراعة بشكل أساسي، إضافة إلى فقدان الكثير من أصحاب اﻷعمال لورشاتهم ومشاريعهم التجارية، في موجات نزوح ضخمة هوت بالكثيرين إلى قاع الفقر.
ومع توقف دخول الديزل الرخيص من شرق الفرات الواقع تحت سيطرة قسد بين عامي 2018 و2019، اضطر السوريون في ريفي إدلب وحلب إلى اﻹقبال على الديزل “اﻷوروبي” القادم عبر الأراضي التركية بجودة أعلى لكن بثمن أكبر، ما أدى إلى ارتفاع جميع التكاليف ومن ثم اﻷسعار.
يضاف إلى ما سبق حالة عدم الاستقرار العسكري والسياسي، وتوقف عمل الطرق الحيوية، وحالة الحصار الجزئي المفروضة، والقصف الروسي.
ويثق المحلل الاقتصادي “خالد تركاوي” – في حديثه لموقع تلفزيون سوريا – بأنه لو حصل استقرار لمدة طويلة نسبياً لاستطاع الناس التغلب على الفقر في فترة قياسية بما يتميّز به السوريون من إنتاجية؛ مرجعاً سبب الفقر الذي يضرب معظم أرجاء سوريا؛ وليس فقط الشمال، إلى ضعف اﻹنتاج وتوقف المعامل من جراء القصف والتهجير المستمر.
ويقول أحد التجار إن ما يعيق أصحاب رؤوس اﻷموال عن العمل هي الاضطرابات المختلفة، على جميع اﻷصعدة، فقد خسر الكثير عند نزوحه من ريف إدلب الشرقي، ولن يغامر بمشروع جديد قد يكلفه ما بقي في حوزته لو تعرضت المنطقة لموجة نزوح جديدة، فضلاً عن وجوده في منطقة غريبة عنه، ليس له فيها زبائن ولا اسم في السوق، واﻷهم من ذلك كله الغلاء الكبير في إيجارات المحال التجارية، بسبب تكدّس الملايين في مساحة “ضيقة”.
عمال المياومة الفئة الأكثر تضرراً بالسياسة النقدية
شهد عام “النزوح اﻷكبر” بداية 2020 تقلباً كبيراً وتهاوياً في سعر صرف الليرة السورية، أدى إلى اضطراب كبير أثقل كاهل اﻷهالي، ودفع إلى التعامل بالليرة التركية التي دخلت بالفعل إلى المنطقة بين شهري أيار وحزيران، وحققت في ذلك الوقت استقراراً في التعامل.
ولكن العملة الجديدة بدأت أيضاً في التراجع، وخسرت منذ ذلك الحين وحتى اﻵن ما يقرب من ثلث قيمتها أمام الدولار اﻷميركي، اﻷمر الذي أضرّ مجدداً بالطبقة العاملة التي تعتمد على اﻷجور اليومية البسيطة.
وفي مقابلات أجراها تلفزيون سوريا مع عمال في محافظة إدلب، أكد العديد منهم أنهم يشعرون بفارق كبير بعد دخول الليرة التركية، معتبرين أن الوضع كان أفضل منه سابقاً، وموضحين أن مصروفهم الشهري بات أكثر بكثير من دخلهم، وهم يرون العملة الجديدة سبباً أساسياً، كما أجمعوا على وجوب تحديد اﻷجور بالدولار.
من جهته قال الدكتور عبد الحكيم المصري المختص بعلوم الاقتصاد ووزير المالية في الحكومة السورية المؤقتة لموقع تلفزيون سوريا: إنه من الطبيعي أن يحدث ذلك، نظراً لفقدان القيمة الشرائية للعملة في حين تستورد المواد بالدولار.
لكن الدكتور المصري يرى أن اﻷمور تتجه على المدى المتوسط إلى وضع أفضل (في ريف حلب) حيث إنها “تشهد نهضة تجارية ويتم افتتاح مولات تجارية ومناطق صناعية وهناك مستثمرون يدرسون المنطقة”، مشيراً إلى وجود “مقومات لنجاح الاستثمارات بالمنطقة خاصة المتوسطة وصغيرة الحجم”.
كما أكد أن مناطق الشمال السوري بشقيه الشرقي والغربي تعيش وضعاً أفضل من مناطق سيطرة النظام السوري الذي يشهد أسوأ حالاته، موضحاً أن متوسط الدخل بشمال غربي سوريا يعادل 600 ليرة تركية أي نحو 225 ألف ليرة سورية في حين أن راتب الوزير هناك يبلغ 100 ألف ليرة سورية فقط أي ما يعادل 250 ليرة تركية، ويؤكد الوزير أن الوضع الاقتصادي شرق الفرات ربما يكون أفضل بشكل عام نظراً لوجود ثروات نفطية وزراعية.
الأجر اليومي للعامل بين 1.5 و 3 دولارات فقط
يتراوح أجر العامل في الشمال بريفي إدلب وحلب بين 15 و 25 ليرة تركية في اليوم، أي (1.75$ _ 2.9$) وسطياً، بموجب سعر الصرف الحالي.
ويعتبر “تركاوي” أن انخفاض قيمة الليرة التركية يبقى محدوداً، فهي أكثر استقرارا من الليرة السورية وساعدت نسبيا على ثبات بعض اﻷسعار وقد بدأت بعض نتائجها اﻹيجابية بالظهور، لافتاً إلى أن المشكلة تكمن في قيمة اﻷجور المنخفضة أصلاً.
ويواجه أيضاً أصحاب الأعمال والتجار مشكلات واسعة، من أبرزها ارتفاع إيجارات المحال التجارية، وتحديدها بالدولار اﻷميركي، ما يعني تزايدها المتصاعد بالليرة التركية، التي يتم التعامل بها يومياً، وتزايد اﻷعباء.
هل يحل التسعير بالدولار المشكلة؟
بدأ استخدام الدولار اﻷميركي في التعاملات اليومية منذ عام 2012 تدريجياً، وأصبح الموضوع على نطاق أوسع يوماً بعد يوم، ورغم كون اﻷمر محظوراً في مناطق سيطرة النظام، فإنه يحدث بشكل مخفي، وبطرق مختلفة للالتفاف على القوانين التي فرضها النظام، لاستحالة التعامل بالليرة السورية، على اﻷقل بين التجار.
ولا يزال سعر الدولار اليوم، هو ما يحدد ثمن أي بضاعة بشكل عام (قد تستثنى المنتجات الزراعية ونحوها) وذلك في جميع أرجاء سوريا.
ويدعو بعضهم لتسعير جميع السلع وأجور العمال في الشمال السوري بالدولار اﻷميركي فقط، للتخلص من مشكلة تقلب اﻷسعار، لكن “المصري” يرى أن اﻷمر قد يكون له حسنات لناحية عدم خسارة التجار بسبب تقلب العملة، إلا أنه قد يكون سلبياً على المستهلك.
من ناحيته يرى “تركاوي” أن المشكلة الحقيقية ليست في نوع العملة تحديداً، وإنما في وجود 3 عملات رئيسية، موضحاً أن المعاملات الكبيرة تتم بطبيعة الحال بالدولار أما الصغيرة فلا يمكن استخدامه فيها، حيث يتم التداول بالليرة التركية في الراوتب وفي الخدمات والسلع اﻷساسية، في حين أن الليرة السورية لا تزال موجودة في التداول خصوصاً في تجارة التجزئة، مؤكداً أن “المشكلة في تعدد العملات وعدم الثبات على عملة واحدة بغض النظر عن العملة نفسها”.
وتبقى المشكلة اﻷساسية – وفقاً للخبراء – في تبعات الحرب المستمرة على السوريين، من توقف عجلة الإنتاج، إلى الخسائر الضخمة التي لحقت برؤوس اﻷموال، ثم غياب دور فاعل لحكومة حقيقية ذات سلطة واقعية، وغموض المستقبل المنظور على جميع اﻷصعدة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا