1. بكل المقاييس، باتَت الردُّودُ الصادرة على أي ملاحظةٍ على “الحركة” و”القِطاع” و”الانتصار”، من قِبل الغالبية العظمى من النشطاء والمثقفين الشباب المنخرطين في الحملات الإعلامية، أقربَ مايكون لإشهارٍ جماعيٍ، مِن قِبَلِهِم، لسيوف الترهيب الفكرية، التي كان ولايزال كثيرٌ منهم يشكو منها حين تُرفع في وجوههم، في حين يُمارسون الآن منطق الاتهام بالتخذيل والقعود. وصارَت تلك الردود، عملياً، رفعاً عنيداً لِشِعار “لاصوتَ يعلو فوق صوت المعركة”، الذي كان وسيبقى دائماً سبباً للخيبات والهزائم. وجرى في خضمّ ذلك تجاهلٌ ظالمٌ ومُجحفٌ وغير مسؤول لكل تاريخ ورصيد أصحاب الملاحظات، على تنوع خلفياتهم، وبَخساً لكل مواقفهم من مختلف قضايا الشعوب على مدى العقود. فضلاً عن كون الممارسات الراهنة تُمثّلُ تساهلاً غير مسبوق في توجيه اتهامات الخيانة والنفاق ومثلها من توصيفات باتت جزءاً من قاموسٍ عربيٍ بذيء، يبدو أنه ماعاد أحدٌ يخجلُ في استخدامه، مع مهارةٍ قصوى في تبرير ذلك، لنفسه، وللآخرين!
٢. مايحصلُ. في غالبه، مُخجلٌ ومُعيب، ولاينسجم مع أي منهجٍ قرآنيٍ أو إنساني. وهو يُخالف قواعد النقد والمناصحة الواجبان، حين يكونان موضوعيين، حتى في وقت الحدث ولحظاته الساخنة. والهروبُ من هذه الممارسة لايُفيد، في مآلاته البعيدة، أي قضيةٍ، مهما كان توصيف أصحابها لها، ولايخدمها، استراتيجياً، من قريبٍ أو بعيد. رغم هذا، ولأجله، نحاول تحليل الحدث بما يمكن من شموليةٍ وتفصيل على شكل نقاط محددة.
٣. بدأت الأحداث الأخيرة بسبب ممارسات الصهاينة المتعلقة بطرد عائلات فلسطينية من حـ.ـي الشـ.يـ.خ جـ.راح ومحاولات اقتحام المسجد الأقصى مع بدايات شهر أيار / مايو الماضي. ورغم تصاعد القمع، إلا أن أشكال المقاومة السلمية لتلك الممارسات كانت تتصاعد، وتأخذ مع التطورات زخماً إعلامياً، خاصةً من خلال الحملات الإبداعية للنشطاء الفلسطينيين، ثم العرب، في جميع أنحاء العالم.
٤. لن يكون بإمكاننا أن نعلم مآل ذلك المسار لو بقي على حاله. ففيما يبدو تجاوباً من قبل “الحركة” مع معاناة الفلسطينيين، دخلت في المواجهة من خلال إ.طـ.لاق الـ.صـ.وار.يـ.خ بتاريخ ١٠ أيار مايو. (لايمكن منهجياً الإلغاءُ الكامل لحسابات “الحركة” في الدخول في المواجهة بغرض استثمار الوضع سياسياً، محلياً وإقليمياً وعالمياً، خاصةً في ضوء مجريات الأحداث ومواقفها بعد ذلك، مما سنستعرضه لاحقاً. دون أن يتضارب الحديثُ عن هذه الحسابات مع تأكيد وجود الحسابات المبدئية أيضاً وفي نفس الوقت. ومن يعرف أي شيء عن السياسة، وعن ملابسات الموضوع وأطرافه يمكن له أن يفهم تعايش نوعَي الحسابات دون شعورٍ بوجود تناقضٍ حدّيٍ بينهما).
٥. ترتبَ على الأمر تصاعد المواجهة عسكرياً، ومعه عدد الضحايا من الشهداء والجرحى والمشردين، وكذلك حجم الخسائر في كل جوانب البنية التحتية للقِطاع. وظهور وحشية الطرف “الأقوى تسليحاً” في المواجهة.
٦. نتج عن ذلك تصاعد زخم الحملات الإعلامية، وتوسعت معه دوائر المتعاطفين مع القـ.ضية الفـ.لسـ.طينية، بل والمتفهمين لجُذورها وتاريخها، في العالم بأسره، وفي أميركا تحديداً. وبشكلٍ أصبح بمثابة (اختراق) غير مسبوق في تاريخ القضية، وستكونُ له تَبِعات كبرى، إيجابية إذا تم التعامل معها بإتقان استراتيجي شامل، وقد يكون فيها وجهٌ سلبي، في غياب حسابات دقيقة، بسبب الدرس الهائل الذي استخلصته إسرائيل، وكل مؤيدوها أفراداً ومنظمات ودولاً، وماسينبني على ذلك من خطط لمواجهة هذا الواقع الجديد.
٧. لاشك، بالحسابات العسكرية والميدانية، أن الأحداث شكَّلَت، عملياً، كسراً لبعض “قواعد الاشتباك” التي كانت سائدةً في السابق، على المستوى العسكري المباشر، وعلى مستوى العمق الديمغرافي. لكن هذا أيضاً بات مجال “مراجعات” واسعة في إسرائيل يجب أخذه بعين الاعتبار في المستقبل، وقد يكون من أول ملامحه سقوط حكومة نتنياهو، الذي كان قرار الحرب بالنسبة الأولى له مدخلاً لشراء الزمن والهروب من انهياره السياسي المتوقع منذ زمن.
٨. أظهرت الأحداث بجلاء أيضاً سقوط كل محاولات تتفيه وتسطيح وتقزيم أجيال العرب الناشئة تحديداً، وهي محاولات كانت ولاتزال تجري بجهود استثنائية. ولم يقتصر الأمر على ذلك السقوط المهم في المجالات النفسية والفكرية والعملية، بل تجاوزه إلى إظهار قدرة الأجيال العربية، عملياً، على استخدام أدوات العصر ومفرداته في مخاطبة العالم، ونجاحهم في ذلك. كما أنها أظهرت، إجمالاً، استمرار الاهتمام العربي الهائل بالقضية، رغم كل محاولات تهميشها وجَعلها أولويةً ثالثةً ورابعة، هذا إن بقيت أولويةً أصلاً.
٩. بيَّنَت الأحداث التعطّش العربي الشعبي شبه الشامل لأي درجة مما يمكن أن يدخل في خانات الانتصارات والإنجازات، وفي أي مجال من مجالات حياة العرب. بما يخفف واقع الإنكسارات والهزائم والفشل الذي يشعر به العرب في كل مجال. وإن كان الموضوع بأسره يُظهر حجم تلك المشاعر ومايمكن أن ينتج عنها من انفجارات..
١٠. أفرزت الأحداث وضوحاً أكبر لجوانب اهتراء النظام السياسي العربي، وتناقص مشروعيته، وتزايد مظاهر شلله وعجزه عن امتلاك أي قدرة لتلبية ليس طموحات، بل وأدنى حقوق، الشعوب العربية على أي صعيد.. فلا تنمية ولاحياة كريمة ولاحرية ولا مشاركة سياسية ولادور إقليمي أو عالمي في أي قضية، وانغماس في صراعات بينية وتحالفات مُتقلّبة ومتناقضة تُظهر أنها ذات خلفية طفولية وشخصية .
١١. بالمقابل، وسَّعَت الأحداث فتحَ أفق أدوارٍ أكبر ممكنة، لجماعات وهياكل أقرب للصفة الشعبية والجماهيرية والأهلية. وهذا سيفٌ ذو حدّين. فمن جانب، يتمثل وجهه الإيجابي في عدم تمكين الأنظمة السياسية (وأغلبها فاشل كلياً) من احتكار كل مايتعلق بحياة الإنسان العربي وبصناعة حاضره ومستقبله. ومن جانبٍ آخر، ثمة خطر، ليس فقط على الأنظمة بل وعلى المجتمعات، يتمثل في الوصول للاهتراء الكامل للنظام السياسي العربي، وبالتالي إمكانية تصاعد وتيرة انهياره بشكل سريع وغير متوقع، مع مايمكن أن يرافق ذلك من فوضى شاملة وعنف وكوارث كبرى أمنية واقتصادية واجتماعية، خاصةً في ظل غياب البدائل القادرة على ملء الفراغ.
١٢. مع وجود المشاعر الصادقة بالتعاطف مع القضية بل والانتماء إليها ومحاولة خدمتها بكل الأساليب، عادت للظهور إلى السطح سلبياتٌ تاريخية في تكوين الثقافة العربية المعاصرة، من مثل استخدام (الشِّعاراتية) و(الخَطابية) في التعامل مع الأحداث، وظهور المزايدات في كيل المديح والثناء على الأشخاص والمجموعات والتقويم للأحداث. وصاحبَ هذا مابدأنا الحديث فيه من غيابِ وتغييبِ محاولات المراجعات والنقد، وإخراس الأصوات التي تُطالب بذلك، بدعوى تصنيفها، المُتسرِّع والعاطفي، في خانات الشرائح القاعدة والمُخذِّلة، وهي شرائح موجودة فعلياً في الواقع العربي، لكن مالايُفيد هو مارافق هذا من عمليات خلط أوراق لاتجوزُ، إن كانت مقصودة، ولاتنفع، إن كانت غير مقصودة، كما لاينفعُ إنكارها والجهل بها.
١٣. في ظل هذا الواقع اختفت كثيرٌ من جوانب النقد المنهجي الذي يجب أن يُوجَّهَ لفكر وممارسات “الحركة”. سواء فيما يتعلق بما جرى، أو بدرجة استعدادها للتعامل مع ماسيجري لاحقاً. وكان من أعجب شواهد ذلك الاختفاءُ الكامل لأي (قبول أو اعتراف) من قبل قادة الحركة ومن قبل الجماهير الواسعة المؤيدة فلسطينياً وعربياً بوجود أي (خطأ) أو (تقصير) في أي مجال! وكأن لسان الحال يقول أن الأحداث بدأت واستمرت وانتهت بدون أي (مثلبة) من قِبل “الحركة” مقصودةً كانت أو غير مقصودة، فيما يبدو أقربَ لتلبيسِها بثوبٍ ملائكيٍ طهوريٍ، لم يوجد له مثيلٌ في التاريخ حتى مع الأنبياء والقادة التاريخيين، بل والدول والجماعات البشرية! لم يسأل واحدٌ، من المتحمسين، مثلاً، قادة الحركة ورموزها، في تجمعات ظهورهم الاحتفالي، سؤالاً بسيطاً: “هل يمكن أن تفكر بخطىءٍ واحدٍ ارتكبتموه وأن تَذكرَهُ لنا علناً؟”.
١٤. أدخل الكثيرون، ومنهم “الحركة” وقادتها، سقوط ناتانياهو على أنه من نتائج “الانتصار”. وإذا افترضنا أن الأمر كذلك، ماذا سيكون القول في نافتالي بينيت، رئيس الوزراء الجديد، الذي يبدو نتنياهو إلى جانبه “شاباً من شباب الكشّافة”، لجهة تطرفه وممارساته الوحشية السابقة وتصريحاته الواضحة عن قتل الفلسطينيين، وخطته لمستقبل إسرائيل والفلسطينيين، بل وإعلانه يوم تكليفه باستعداده الكامل لشن الحرب على “القِطاع”.. إلى غير ذلك مما تحدث عنه بتفصيل الإعلامي الأميركي المسلم “مهدي حسن” في مداخلته على الوصلة أدناه، وتحدث عنه مراقبون كُثر.
١٥. وفي نفس الإطار، يجب أن نلاحظ جميعاً دلالات ونتائج ماجرى، نفسياً وعملياً في أوساط الفلسطينيين والعرب الذين كانوا في أقصى درجات الاستنفار والنشاط، وذلك حين أعلنت “الحركة” وقف إطلاق النار بعد ١١ يوماً من المـ.واجـ.هة، يوم ٢١ أيار / مايو، أي منذ أكثر من أسبوعين. وأعلنت معه “الانتصار”.. بشكلٍ صار معه لسان حالها يقول للناس “تولينا الأمر، وانتصرنا، وانتهى الموضوع الآن، اذهبوا إلى بيوتكم”، حتى لو تقل “الحركة” هذا بلسان المقال. لكن ماجرى تغييبهُ، قصداً أو عن غير قصد، أن ممارسات الصهاينة في “الحي” وفي الأقصى ليست فقط مستمرة، وإنما متصاعدة وامتدت إلى حي سـ.لوان وغيره، مع حملات اعتقالات بالمئات في القدس وغيرها من مدن الخط الأخضر!! والسؤال الكبير الذي ينبغي أن يجيب عليه رموز الحركة الذين قالوا أن نقل المـ.واجهة إلى “القطاع” جرى تماماً بسبب تلك الأحداث وللوقوف مع “شعبنا”: (ما هو موقف “الحركة” الآن بعد إعلان “الانتصار” ومرور قرابة ثلاثة أسابيع على تصاعد الانتهاكات “نفسها” في ظل صمت كامل عنها بالكلام والفعل!!). والأسوأ أن الأمور تتصاعد في ظل العملية النفسية التي حصلت بشكل عفوي وانخفض معها بشكل كبير جداً كل الزخم العربي والعالمي تجاه الأحداث، وتجاه معاناة المقدسيين خاصةً؟! لأن من الصعب على الناس، لاشعورياً، أن يكونوا “مَلَكيين أكثر من الملك”، ويُصِرّوا على المتابعة بنفس الزخم والهمة، في حين أن “أصحاب القضية” أعلنوا انتهاءها، ولو مرحلياً، ومن خلال أمرٍ واقع نفسي وسياسي وعسكري فرضه وقف إطلاق النار وإعلانُ “الانتصار”؟!
١٦. كان واضحاً جداً من الأحداث أيضاً أن “الحركة” هي في مأزق حقيقي بسبب علاقتها بإيران وحزب الله، مع تصريحاتها الإيجابية تجاه نظام الأسد، ومؤخرا تقديم درع تقدير للحوثيين في صنعاء من قِبل ممثل “الحركة”! الجدير بالذكر أن الحديث عن وجود المأزق هنا ليس من باب الاتهام، وإنما هو من باب الحديث الصريح عن التحدي الكبير في هذا المجال، والذي لن تنفع معه محاولة الالتفاف عبر الحديث عن “أخطاء في التعبير”، ولاحتى عن الواقعية السياسية والعسكرية والاضطرار.. لأن “الحركة” ستظل مُطالبة من قبل شرائح ضخمة من الشعب العربي، الداعم لها، والذي عانى ويعاني الأمرين من إيران ، نقول، ستظل مطالبة بالابتكار والإبداع في إيجاد بدائل، وهي التي تتحدث دائماً عن قدرتها المتميزة في ذلك. وإلا فسيتطور الموقف من علاقتها بإيران، خاصةً مع السقطات المتزايدة لبعض قادتها، بحيث يُصبح عنصز أزمة أساسي في موقف الشعب العربي منها.
١٧. ويدخل في نفس الإطار مواقفها القادمة “المتوقعة” من كثير من الأنظمة العربية، ومن بعض سيناريوهات التحالفات والحلول المطروحة.. حتى لو اعترفنا أنها ستكون بضغط إكراهات الواقع والجغرافيا والسياسة.. إذ سيكون هذا كله في إطار التحديات الكبرى التي تحتاج إلى مزيد من الحسابات الاستراتيجية، وإلى التفكير خارج الصندوق، والكثير الكثير من الإبداع والابتكار، وتحديد دقيق للأولويات.. ولحسابات الأرباح والخسائر في كل قرار ووراء كل ممارسة. وهذا مالن تنفع فيه، الآن، حماسة الشباب وكلماتهم المُعبّرة، رغم كل إخلاصهم وإيمانهم المطلوب بالنصر والتغيير على المدى السُنني..
١٨. هذا هو واقعنا. هذا هو واقع “الحركة” و”القطاع” وفلسطين والعرب. أن نكون في هذه البقعة الأكثر تعقيداً في العالم لجهة تشابك المصالح المحلية والإقليمة والعالمية وكل عناصر (الجيوبوليتيكس) المتداخلة. ولجهة كونها بؤرةً للتدافع الحضاري، والسياسي والثقافي والعسكري، لايكاد يكون لها مثيل. فتحدياتنا هي بحجم الجبال. وجبهات العمل والتخطيط والدراسة للتعامل مع هذا الواقع لاتكاد تكون لها نهاية. رغم كل هذا، سيكون “المسمار” الأول والأكبر في نعشنا متمثلاً في محاربة النقد وطلبات المراجعة ورفض الاعتراف بالأخطاء ومنعِ إثارة الأسئلة المشروعة، وكل مايندرج في هذه المعاني من ممارسات. أما في حال امتلكنا الإرادة والقدرة على التخلص من ذلك “المسمار” القاتل، مرةً واحدةً وإلى الأبد، فسيبقى التعامل مع كل التحديات داخلاً في إطار الممكن الذي يبقى الإنسان مؤهلاً للاستزادة منه، مع كل مافيه من كمون ليس له مثيل.
المصدر: كلنا شركاء