الشخصيات العامة، خصوصًا السياسية منها، غالبًا ماتكون محل تساؤل من قبل العامة من الناس، أو الجمهور والقاعدة الشعبية، عن حياتها وسلوكها العام، الذي هو ليس ملكًا صرفًا لها، لجهة ذمتها المالية، ومصادر دخلها وانفاقها، هذا عدا عن سؤال الضمير قبل القانون: من أين لك هذا.؟؟
وكما هو معلوم في كثير من الدول الديمقراطية التي تتمتع بالشفافية المطلقة فان رجال السياسة عند تبؤهم لمواقع حساسة، ومتقدمة، يقدمون كشوفات بممتلكاتهم، وأرصدتهم المالية، تثبت نزاهتهم، وعدم استغلالهم لسلطاتهم، أو ضلوعهم بالفساد والجني غير المشروع، أو تورطهم حتى بقضايا التهرب الضريبي، وماشابه ذلك.
بالطبع محمد خليفة لم يتقلد مناصب عليا في الدولة، ولم يكن في صدارة مؤسسات المعارضة، بعد الثورة، ولكن أتيح له فرصًا كثيرة، وكان في مواقع عامة كان يمكن أن تكون مصدرًا له لو رغب، أو أراد، جني بعض المال الحرام، ومن هنا أردت تسليط الضوء على هذا الجانب من حياته وشخصيته.
منذ ما قبل وصولي للسويد/ استوكهولم مع اشتداد مرض شقيقي محمد/ أبو خالد، رحمه الله، كنت على معرفة دقيقة، وتامة، بوضعه المالي وشظف حياته، خصوصًا أن عمله في السنوات الأخيرة في عدد من المواقع والصحف أو المجلات كان مجانيًا بالمطلق، وبالكاد يسد حاجاته الأساسية من المعونة الاجتماعية التي يتلقاها من الحكومة السويدية، وكان أصلاً قد أصبح متقاعداً، ومع ذلك كنت تحت هاجس معرفة وضعه بدقة، ماذا في حسابه البنكي وفي بيته؟، ماذا ترك خلفه؟، وماذا أبقى لأولاده بعد عمله في كبريات الصحف والمجلات العربية لسنوات طويلة؟، واقترابه من شخصيات عربية سياسية مرموقة عمل معها، وحتى علاقاته بدول وسلطات عربية فتحت أبوابها له ضمن تصورات لعمل سياسي وطني وقومي .
ماوجدته لم يكن مفاجأة لي، وأنا القريب منه أكثر من أي شخص آخر، بمن فيهم أولاده، كما أزعم وأدعي، خصوصًا أنه كان يلجأ لي في أوقات شدته وعثرته، وكثيرًا ما اضطر للاستدانة في السنوات الأخيرة لتقديم مساعدة لهذا أو ذاك، أو التبرع لهذه الجهة أو تلك، أو للمساهمة في نشاط أو فعالية، أو لشراء تذكرة سفر للمشاركة في نشاط ما في إحدى عواصم أو مدن المعمورة. وأريد هنا تسليط الضوء على شخصية عامة، وطنية، جسدت تلازمًا وتطابقًا كاملين بين فكرها وسلوكها، بين قيمها التي تبشر بها وتدعيها وأخلاقها، خصوصًا أننا إزاء وضع مستجد في سنوات الثورة السورية الماضية، بات معها الشك والتهم تلاحق الكثيرين من المشتغلين بها، والعاملين لأجلها، أو المتصدرين لمشهدها العام.
لحظة الوفاة وبدء إجراءات الدفن تواصلت مع شركة خاصة يملكها أخ جزائري وبعد إتمام الإجراءات القانونية والدينية قدم لي فاتورة رسمية وصلت قيمتها لما يزيد عن 16000 كرون سويدي أي حوالي 1600€ قمنا بدورنا بتسليمها للبلدية التي تتبع لها المنطقة، أو الحي، الذي كان يسكن به، والتي من جهتها تواصلت مع البنك الذي يتبع له حسابه، وكان قد تم تجميده منذ لحظة الوفاة ببلاغ من المشفى، فلم يجدوا فيه أكثر من 13000 كرون بما يعادل 1300 أوروا وتكفلت البلدية تسديد الباقي بحسب الاجراءات والأصول القانونية المتبعة في مملكة السويد.
دخلت بيته (الذي كان يعيش فيه لوحده، أو بمفرده، في السنوات الأخيرة،) برفقة ابنته الكبرى، ربى، حفظها الله وأسعدها، وبدأت البحث عما اعتقدنا أنه تركه لنا من بعده، وصية شرعية، فلم نجد شيئًا بهذا الخصوص، مطلقًا، رغم أني سمعت منه أكثر من مرة أن لديه وصيةً، غيرها أكثر من مرة.
بحثنا كثيرًا، وامتد واتسع ليشمل متعلقات بشخصه، ومنها ما يمكن أن يكون قد تركه، أو خبأه، من عملات عالمية أونقوداً محلية.
كل ما وجدناه من عملات لا تصل قيمتها الى 1500€ ( كرون سويدي وايرو أوربي ودولار اميركي وبقايا عملات من رحلاته وزيارته الكثيرة والعديدة، تركية، مصرية، لبنانية، تونسية، ورومانية و…و…) سلمتها لابنته ربى التي كانت ترافقني، كما ذكرت آنفًا.
غير ذلك لم نجد شيئًا ذا قيمة، من مثل ساعة ثمينة أو خاتم ذهب، أو علب بارفان، حتى لو كان علبة واحدة من ماركات عالمية، أقلام غالية الثمن من ماركات مشهورة، باستثناء قلم باركر عادي احتفظت به لنفسي بعد أن أعلمت مرافقتي الحبيبة ربى، أو…أو…
كل ماوجدته إضافة لمكتبته عددًا كبيرًا جدًا من النظارات الطبية، وهو ما أثار استغرابنا، عدا طبعًا عن ألبسته الشخصية العادية التي لم يكن منها شيئًا من ماركات الأزياء والموضة، وأدويته وطعامه.
شقته التي يقطن بها تعود للحكومة السويدية، وكان يسدد إيجارها شهريًا، كما هو حال معظم السويديين، ومنهم المهاجرين واللاجئين، وفي مدينته ومسقط رأسه، حلب، ليس لديه أي أملاك خاصة، عقارات أو شقة سكنية، باستثناء ماورثه عن والده الذي ينتظر الإجراءات القانونية (حصر الإرث) والقسمة، وهو ماحالت دونه الظروف العامة.
عاش محمد خليفة سنوات عمره عصاميًا منذ نعومة أظافره، وقد سجل ذلك ووثقه في الفترة الأخيرة في برنامج (ذكريات ومذكرات) بالصوت والصورة على قناة التلفزيون العروبي في الكويت، ولم يمهله القدر لاستكمالها. فرغم يسر حال والدنا الا أنه اعتمد على نفسه، وعمل في العطل الصيفية، وجمع بين الدراسة والعمل في المرحلة الجامعية، الى أن تفرغ للعمل الصحفي والبحثي، بشرف وعفة، يلتقط رزقه كالعصافير، حبة من هنا وحبة من هناك، كما قال لي ذات يوم واصفًا نفسه ومدخوله الشهري.
عاش فقيراً ورحل فقيراً، لكنه في المقابل عاش طاهراً كريم النفس، لم يبع نفسه أو قلمه لأي جهة كانت، غنياً بنفسه، وثرياً بقيمه وأخلاقه وقناعاته.
لم يترك من إرث أو رصيد لأولاده أو أسرته، سوى اسمه الذي سيبقى في ضمير من أحبوه وعرفوه، وعزة نفسه التي جعلته على الدوام على مسافة من أي إغراء.
رحمه الله وغفر له.
لأولاده ولنا الصبر والفخر.
عاش فقيراً شريفاً و مات فقيراً شريفاً كأبي ذر .. رحمك الله أبا خالد
وفي آخر سنوات عمره عاش وحيدا ومات في غربته شبه وحيدا الا من بعض أهله
رافقه رحمه الله زهد الناسك تجاه المال والمغريات… ونزق وصلابة الثائر تجاه مبادئه وطيبة ونقاء سريرة المؤمن المحسن والود القديم الذي لا يني حاضرا لمن مروا وكانوا على الدرب.. أقول هذا وفي القلب غصة وانا استعيد صورا لماض لم تسعفنا الأيام أن يطول.
رحمك الله ياأبا خالد وجزاك الله خير الجزاء على كل ماقدمت وعلى الصبر القديم المثابر تجاه الدنيا وغوائلها…
” وبشر الصابرين”