عن سابق تصور وتصميم، اختار 125 نازحاً سورياً من الناخبين المسجلين على لوائح الشطب، موعد فتح صناديق الاقتراع في سفارة بلادهم في اليرزة، صباح الخميس، لكي يرموا بأنفسهم في البحر، قبالة سواحل عكار الشمالية، في محاولة إنتحار بالغة المرارة، كان يفترض أن تفسد العرس الديموقراطي السوري، وأن تصرف النظر عن الهرج اللبناني حوله. لكنها لسوء الحظ لم تفعل.
وقع النازحون السوريون الذين كانوا في قارب صغير لا يتسع لأكثر من عشرين شخصاً، ولا يضمن الابحار الآمن حتى آخر تلك الرحلة الى المجهول، التي قد لا تتعدى السواحل القبرصية، في قبضة الجيش اللبناني، الذي أعادهم محتجزين، خائبين، لعدم تمكنهم من التعبير العلني ، للمرة الاولى ربما، عن قرارهم الحر بمقاطعة الانتخابات والامتناع عن التصويت، أو ربما بالتصويت بورقة بيضاء، مبللة بمياه البحر التي سبق أن إبتلعت الآلاف من مواطنيهم على مدى السنوات العشر الماضية.
ولعل أولئك الفارين من النظامين ومن الشعبين، يكتفون الآن بأن أصواتهم لن تحسب على أحد، ولن تجير لأي كان. فالانتخابات مرت بسلام، والنتائج أعلنت قبل إقفال الصناديق، ولن يبق من وقائعها سوى تلك المناوشات التي دارت في الشوارع اللبنانية، وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.. لتؤكد أن النظامين السوري واللبناني بخير، وتثبت أن الشعبين ليسا على ما يرام.
لم يكن لبنان البلد الوحيد في العالم الذي سمح بإجراء الانتخابات الرئاسية السورية على أراضيه، لكنه كان البلد الوحيد الذي كانت تلك الانتخابات مناسبة لإختبار الضغائن والاحقاد المتبادلة بين أبناء الشعبين، اللذين كانا حتى الامس القريب، شعباً واحداً في دولتين، ولقياس معدلات التوتر بين السوريين أنفسهم بالدرجة الاولى كما بين اللبنانيين الذين فاقت عصبيتهم للعملية الانتخابية السورية وللمشاركين فيها، الحدود المسموح بها إزاء مثل هذه المسرحية الهزلية.
وبناء على ما إنتهى إليه ذلك اليوم الانتخابي الساخر، يمكن الاستنتاج أن السوريين أنفسهم، والموالين خاصة، وهم أغلب المقيمين على الاراضي اللبنانية، فقدوا الكثير من حماستهم وحيويتهم “الديموقراطية”، ولم يزحفوا الى مقر سفارتهم في اليرزة بعشرات الالاف، كما فعلوا مثلا في آخر إنتخابات مماثلة في العام 2014. الإقبال كان ضعيفاً جداً هذه المرة. وهو إن لم يؤثر على فرز الاصوات، فإنه بالتأكيد سيؤثر على البحث في أسباب كتمها، خاصة وأن المرحلة حرجة، والمؤامرة الكونية لم تنته، والارهاب ومموليه( الذين باتوا من زوار دمشق والمقيمين فيها)، لم يتوقفوا عن العبث بسوريا.
قد يكون السبب هو إنشغال حزب الله، الراعي الرسمي لمهرجانات النظام السوري في لبنان، في الاستنفار على الحدود، وقد يكون أيضا ضيق ذات يد الحزب، ويد بقية أنصار النظام وعدم قدرتهم على تمويل حملة وعملية انتخابية تليق بالرئيس بشار الاسد، الذي أصر على تنظيم ذلك الاستفتاء الشعبي، بالرغم من الظروف الصعبة في سوريا وفي لبنان وفي كل مكان في العالم. لكن المستقبل كفيل بما يعوض ما فات في هذا الاستحقاق الدستوري، الذي قد يحلم الكثيرون من اللبنانيين حتى بمثله في يوم من الايام الآتية.
أما ما شهدته بعض المناطق اللبنانية من إضطراب لبناني سوري، فإنه كان لزوم ما لا يلزم. هو لم يساهم في إعادة إكتشاف حقيقة أن الغالبية السورية المقيمة في لبنان موالية للنظام، وقد إختارت الاقامة فيه، لهذا السبب بالتحديد، لكي تظل على مقربة من بلادها، ولكي تستخدمه كممر مفتوح للتنقل والتهريب في الاتجاهين. أما الأقلية، فهي من البؤساء الذين لم يجدوا مكاناً آخر للنزوح، والذين سبق أن إستوعبتهم سوق العمل اللبنانية على الدوام.
من حوالي مليون و200 ألف نازح سوري، بينهم 800 الف مسجل على اللوائح الدولية، لم يحضر عُشرهم العرس الانتخابي في اليرزة، لا لثقتهم بالفوز الساحق للاسد على منافسَيه، ولا لقلة إهتمامهم بالعملية الدستورية وأحكامها التي لا ترحم..لكن ربما إحتراماً للازمة الدستورية اللبنانية التي يعيشها بلدهم الثاني!
المصدر: المدن