هناك في مكان يتماهى في حدوده مع نزيل آخر اسمه سورية، امرأة هادئة، طيبة، معطاءة، كريفنا السوري. سكنت في قلب ميشيل كيلو، وإلى جواره، نحو ستة عقود، تقاسمت فيها معه سنوات الحب والقهر والاعتقال وألم الغياب، وكلٌّ من مكانه كان يشكل للآخر رافعةً معنوية، وجسر عبور إلى الأمل، والمستقبل الذي يشكله تفاؤلٌ لا حدود له بانتصار حق الإنسان في حياة حرة وكريمة. كانت تلك وديعة ميشيل كيلو، مصدر قوته وعزيمته، ومخزن الحب الذي كان ينهل منه ليقاوم قهراً مستبدّاً، وزنزانة حاكم، وتقلّبات المزاج الشعبوي بين مؤيد ومنتقد، إلى حد أن يوغل بعضُهم سكاكين كلماته المسمومة بين دفء انتقاداته له.
هذه السيدة التي تعتصر ألماً اليوم، تقف إلى جوار جثمانه، وتمشي معه إلى حيث يستقر في أولى محطات رحيله الأخير في باريس، على أمل ألاّ تكون تلك محطته الأخيرة، فإيمانها بأنّ الزوج الراحل ترك مخزوناً كبيراً من تجربةٍ مديدةٍ، ما زال يكتنزها حاسوبه، والأمل أن تمتد له يد المساعدة لتحرّرها وتؤمن وصولها إلى أصحاب الحق فيه من كلّ السوريين، فلدى وديعة كثير من ودائع ميشيل كيلو السياسية والإنسانية، وما أكثرها.
ميشيل الإنسان الذي أستطيع أن أكتب عنه الكثير، والذي أعاد سورية بتفاصيلها إلى بيتنا، منحني، أنا وزوجي، استراحة من غربتنا خلال زيارته لنا في فيينا مكان لجوئنا، بعدما ضاقت فرصنا في الحياة داخل سورية كما هو حال كثيرين من أمثالنا. كان الجدً الذي روى لأولادي الشباب “حكاية ميشيل كيلو الحقيقية” حكاية العصفور الآخر الذي خبروا طيرانه وألوانه واتساع سمائه، على عكس ذلك الطفل الذي غيّب النظام معالم الحياة عنه، فعجز عن الانبهار والتخيّل. صادق ابني الكبير مجد، وتابع أخباره، كتب له الرسائل كما لو أنّه اختصر سنوات الفارق العمري كلّها بينهما ببساطته وتباسطه. ونافس ابني الأصغر حسن، في حسّ الفكاهة والخطابة، وذهب معه إلى أقصى أحلامه ومشاريع مستقبله. علّمني، مع زوجته الرائعة، كيف أبني هرماً من الاكتشافات المستقبلية مع ولديّ، وهو يسرد تفاصيل علاقته مع ابنه حنّا، الشاب الذي تحمل أعباء مواقف والده الوطنية، ومع أحفاده من ابنه أيهم، وابنته شذى.
خسر تراب سورية اليوم احتضان واحدٍ من عشّاقه، وأحد أنبل من عملوا من أجل تحرير الإنسان الذي عاش فوقه، ليعاقب بحرمانه منه حياً في آخر سنواته، وميتاً غريباً في أرضٍ عرفت كيف تصنع له مكاناً بديلاً، يأوي إليه مع عائلته. هو الرجل الذي لم تثنه سنوات الاعتقال داخل زنزانات بلده، ولا مخاوف تكرارها، من أن يستمر في كفاحه من أجل الحرية، من داخل بلده ما أمكنه ذلك، وقد صدق في قوله “أموت من أجله وفي سبيل حرية شعبه”.
وقد فعلها، مات ميشيل كيلو وهو ممسكٌ بسلاح قلمه، يدافع عن وطنٍ يتسرب منَا جميعاً، يضمُر شيئاً فشيئاً، لكنّه على الرغم من ذلك، بقي بين كلماته في وصيته: وطن سوري يتّسع للجميع، وكبير بالجميع منا، عرباً وكرداً وآشوريين وشركس وتركمان، بكلّ تنوعنا ومذاهبنا. لم تغير حروب السنوات العشر خطوط حدود بلده في ذاكرته، وقد آمن بأنّ وحدتنا – نحن الشعب – هي التي تطبع صورة خريطتنا دولةً تخرج من تحت رماد التمزّق، وتعود سورية الواحدة والفريدة.
كسبت باريس اليوم ذلك الوسام السوري الرفيع ميشيل كيلو، وأخذت بين جنباتها جثمان مناضل عنيد، آمن بثوابت ثورات الحرية، وأعلى قيمة الكرامة الإنسانية في فعله وقوله، حتى آخر لحظات صحوه في حياته الممتدة 81 عاماً. منحته فرنسا أمان الإقامة، ومنحها هو عيوننا المتوجهة إليها، وبحراً من دموعنا التي ترافق جثمانه من كنيسة Saint-Pierre-de-Montrouge إلى مثواه “المؤقت” في مدفن Cimetiere parisien de Bagneux، حيث لن يقبل الأحرار من السوريين إلّا أن يكون مثواه الأخير في تراب سورية الحرّة وفي اللاذقية، مهد عشقه الأبدي، وحيث يستحقّ أن يبقى علامة بارزة في صناعة تاريخ سورية الحديثة، حين يبقى الفكر وتزول البنادق.
اختصر ميشيل كلّ ما أراده من السوريين من بعده بوصيةٍ حمّلني أمانة نقلها إلى كلّ العالم، فأودعني رسائله، ووضع لي عناوين ما أراد أن يوضحه، وأهداني ثقته، بأن أكون المؤتمنة على إعدادها، وإرسالها إلى صحيفة العربي الجديد في تأكيد منه على منحي هذا التقدير الكبير من كاتب وسياسي، اختلفت معه في مواقف عدة، لكنّنا اجتمعنا معا في أعمال كثيرة، نسعى من خلالها إلى بناء جسور تواصل وثقة مع كلّ السوريين، وكأنّ اختلافاتنا كانت سبباً لتقاربنا وصداقتنا التي بدأت أولى ملامحها في دمشق 2011 إبّان انطلاقة الثورة. ثم تعثرت، إثر اجتماعاتنا في أولى سنوات انضمامنا إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة عام 2013، وعادت لتتعمق عام 2015، ليكون السبب في قبولي تسلم مهمة نائب الرئيس للائتلاف بعد ابتعادي عنه عامين متتالين.
في الأيام الأخيرة، كنت أرسلتُ صورة عن رسالة الأستاذ ميشيل، مرفقة بالوصية التي بعث بها إليّ، والتي نشرتها “العربي الجديد” وهي في الحقيقة الجزء الثاني من المنشور الذي سبقها، ونشر يوم 28 من الشهر الماضي (مارس/ آذار) تحت عنوان “نداء إلى السوريين الأحرار” وقد تضمن أيضاً عبارات قصيرة وعناوين أراد الاطمئنان بأنّه أوصل ما يريد قوله إلى كلّ السوريين، وقد استكملها بما نشر في “العربي الجديد” يوم 9 إبريل/ نيسان الجاري، تحت عنوان: “إلى السوريين”. وربما يفيد أن أذكر أنّه، بعدما اطلع على النص النهائي قبل نشره، وعلى الرغم من ظروفه الصعبة، انتبه إلى نسيانه الحديث عن فلسطين، فكتب مضيفاً: “لا تنسوا أنّ معركة فلسطين هي أصل كلّ معاركنا، وأنّنا ندفع ثمن هزائمنا فيها”. ثم قال: “لن تتوازن الوصية من دون التأكيد على دور المرأة والشباب والطفل”. هكذا، كان ميشيل حاضراً في كل تفاصيل قضايانا حتى آخر رسالة منه، وهي الرسالة الصوتية، التي كانت نتيجة تواصل بيننا، بخصوص معايدته السوريين لمناسبة حلول شهر رمضان (13 إبريل/ نيسان).
رحل ميشيل عن هذه الدنيا، لكنّه ترك الكثير مما يمكن أن نكتبه عنه وله وحوله، وفي نقده، وفي التوافق معه، ما يؤكد أنّنا أمام حالة سياسية وإنسانية جامعة، لا يمكن مقارنتها بأحد آخر، سوى بالحالة الشعرية لنزار قباني بأنّه رحل وبقي الكلّ حوله بين معارض ومؤيد يتحدّثون عنه، ويضعونه مجالاً ومكاناً للمقارنة، واقتباس ما يمكن أن يعيننا على وصف واقع ذهب أو حاضر أو قادم.
المصدر: العربي الجديد