دفعا لأى التباس أو انحراف بالتأويل ، نقرر أن كاتب هذه السطور ليس من المعجبين بالنظام الإيرانى ، ليس لأسباب دينية ، فالشيعة الصحيحة كالسنة الصحيحة ، كلها من الإسلام دينا وتاريخا وحضارة ، لكن التشيع الإيرانى فى غالبه يبدو مختلفا ، وهو ابن بيئة خاصة تكونت من مئات السنين مع دولة اسماعيل الصفوى ، التى فرضت “التشيع الصفوى” بأصول فارسية على من كانوا أهلا للسنة ، و”التشيع الصفوى” غير “التشيع العلوى” على حد تعبير المفكر الإسلامى الإيرانى “على شريعتى” ، وقد مات “شريعتى” بظروف غامضة فى لندن قبل عامين من ثورة الخمينى ، التى أزالت حكم أسرة بهلوى ، ووضعت نظام حكم خاص ، يستند إلى تفسير مختلف لمذهب الشيعة الإمامية ، جوهره حكم “الولى الفقيه” النائب عن الإمام المهدى الغائب حتى يعود.
والمغزى بعيدا عن كثير التفاصيل ، أن النظام الإيرانى قد يصيب أو يخيب فى إيران ، ولا يبدو قابلا لاستنساخ مطابق فى أى بيئة إسلامية أخرى ، لكنه كنظام سياسى ، وبعيدا عن المقارعات الدينية والفقهية ، أثبت صلابة تعدت الأربعين عاما من عمرها ، فلم يسبق لنظام سياسى ، أن تعرض لكل هذا القصف من الضغوط والعقوبات ، ربما باستثناء نظامى “كوبا” و”كوريا الشمالية” الشيوعيين ، وإن كان النظام الإيرانى تعرض لما هو أصعب بكثير ، فقد فرضت عليه عقوبات دولية وأمريكية لم تتوقف يوما ، وتعدت الألف نوع حتى اليوم ، وكان أخطرها ما جرى فى فترة حكم الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب بعد انسحابه من “الاتفاق النووى الإيرانى” فى مايو 2018 ، والتى عرفت بعقوبات “الضغط الأقصى” ، واستهدفت اعتصار إيران وتفليسها تماما ، وحرمتها بخفض تصدير البترول من عوائد بمئات مليارات الدولارات ، وأدت إلى مضاعفات اقتصادية واجتماعية بالغة القسوة ، انهارت معها أسعار العملة الإيرانية ، وتداعت أوضاع الطبقة الإيرانية الوسطى البالغة 60 مليونا من السكان ، وقادت إلى انتفاضات عرقية واجتماعية وسياسية واسعة ، قمعها نظام المرشد الإيرانى بعنف دموى وحشى ، تماما كما قمع احتجاجات “المسيرة الخضراء” عام 2009 ، وقبلها قمع كل ما توالى من صور تمرد منذ ثورة 1979 ، ولكن من دون ظهور علامات إنهاك نهائى للنظام الإيرانى ، الذى لايزال يستند إلى تأييد شرائح اجتماعية واسعة ، تؤثر فى ميولها جماعات النظام “الإصلاحية” و”المحافظة” ذات الخطاب الدينى ، إضافة لتحولات نسبية محسوسة فى بنية الاقتصاد الإيرانى ، الذى كان يعتمد كمجاوريه على تصدير البترول والغاز بصورة رئيسية حاسمة ، ونجح برغم تراكم العقوبات فى خلق موارد اقتصاد آخر ، يدور حول الصناعات العسكرية والنووية ، كما الصناعات البتروكيماوية وصناعات المعادن والسيارات وغيرها ، حافظت على مقدرة احتمال كبيرة ، ساندتها براجماتية نظام يصنع قراره بنفسه ، وينشر مناطق نفوذه الإمبراطورى فى “الربع الخالى” العربى المجاور بالذات ، حيث لا مشروع عربى منافس ، بعد انهيار المشروع القومى العربى أواسط سبعينيات القرن العشرين ، بأثر مباشر لما جرى فى مصر بالذات قائدة المشروع ، بعد خذلان السياسة لنصر السلاح فى حرب أكتوبر 1973 ، والانقلاب بعدها على اختيارات عبد الناصر كلها ، ولم تكن مجرد مصادفة بغير مغزى ، أن سنة 1979 ، التى عقدت فيها ما تسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ، هى ذات السنة التى بدأ فيها المشروع الإيرانى بثورة الخمينى ، وبدت إيران من وقتها وبإطراد ، وبمشروعها القومى الفارسى المغطى بلباس إسلامى شيعى ، وكأنها تقود المنطقة من أطرافها لا من قلبها ، وتظهر فى صورة القطب المناهض لكيان الاحتلال الإسرائيلى ، والداعم لحركات المقاومة المسلحة من لبنان إلى فلسطين المحتلة .
كان التحول القطبى فى خرائط النفوذ بالمنطقة لصالح النظام الإيرانى ، حتى لو كرهنا توسعاته ، ونحن نكرهها فى أغلبها ، ونكره آثارها التدميرية الزلزالية فى اليمن وسوريا والعراق بعد الاحتلال الأمريكى ، وبصرف النظر عما نحب أو نكره ، فقد كان التحول مكسبا صافيا لإيران ، مكنها ويمكنها من خوض معركة التحدى مع أمريكا ذاتها ، وكان التحول فى بعضه عائدا إلى الطبيعة الشيعية الخاصة للنظام الإيرانى ، فإيران ذات الجغرافيا المتسعة هى دولة متعددة القوميات ، واكتسبت أغنى أراضيها بموارد البترول والغاز الطبيعى من الحطام العربى أوائل القرن العشرين ، حين ضمت “عربستان” على شاطئ الخليج الشرقى إليها بتواطؤ مع الاستعمار البريطانى ، وضمت إلى جوار العرب قوميات متعددة ، كالبلوش والأوزبك والتركمان والأكراد والآذريين وغيرهم ، إلى جوار القومية الفارسية التاريخية أصل التكوين الإيرانى ، ولا يشكل الفرس فى إيران الحالية سوى أكثر قليلا من ثلث السكان ، لكن القومية الفارسية مدت نفوذها بالتشيع الصفوى ، وصار التشيع هو القومية الأكبر الجامعة لقوميات إيران وأعراقها ، مع وجود استثناءات محاصرة لمراكز سنية ، وهو ما بلغ ذروة أثره مع النظام الإيرانى الحالى ، الذى يبدو فيه المرشد على خامنئى ـ الآذرى الأصل ـ كامبراطور فارسى ، يهيمن بسلطته الدينية على الدولة الإيرانية بكاملها ، وهو المختار من بضعة عشرات المعممين فى “مجلس خبراء القيادة”، الذى يحق للمرشد وحده تعيين نصف رجال الدين فيه ، ويتحكم فى “مجلس القضاء” ، وفى “مجلس صيانة الدستور” ، وفى “مجمع تشخيص مصلحة النظام” ، وفى القوات المسلحة والمخابرات والحرس الثورى وقوات التعبئة التطوعية “البسيج” ، ولا ينتخب المرشد من الشعب مباشرة ، فى حين تبدو صلاحيات رئيس الجمهورية المنتخب محدودة جدا ، وأقل من سلطات رئيس وزراء فى ظل نظام رئاسى ، ويملك المرشد عزله فى أى وقت ، كما يملك مجلس الشورى “البرلمان” سلطة عزل الرئيس ، وليس بوسع أحد الترشح للبرلمان من دون موافقة “مجلس صيانة الدستور” ، التابع بدوره للمرشد ، فحق الترشح مقيد بالطاعة التامة للمرشد الذى هو “الولى الفقيه” ، وهو نظام لا تجد له شبيها فى تعدد مراكزه وتداخلها ، ويسمونه تدليلا بنظام “الديمقراطية الدينية” ، وتعدد مراكز السلطة يوسع فى هوامش المناورة وامتصاص الصدامات بالداخل والخارج ، لكن وحدة القرار النهائى فى يد المرشد ، هى التى تحدد الاتجاه ، واستناد النظام دستوريا إلى المذهب الشيعى الإمامى “الإثنى عشرى” هو ما يعتبره مركز قوته الضاربة ، وهو ما أضاف إليه مددا خارجيا حكام العرب الخليجيون بالذات ، والأخيرون فى غالبهم خاضعون بالخلقة لمذهب التبعية الأمريكية ، وقد أضافوا قوة لإيران من حيث يحتسبون أو لا يحتسبون ، فقد دفعوا مليارات لا تحصى من الدولارات “البترولية” على حملات تكفير الشيعة ، وبما رمى الشيعة العرب حول الخليج فى حضن إيران ، إضافة لأدوار الحكام إياهم فى دعم المجهود الحربى الأمريكى لاحتلال العراق وتحطيم دولته وجيشه ، وهو ما خلق فراغا احتلته الهيمنة الإيرانية ، وتكررت المأساة نفسها فى سوريا واليمن ، بدفع عشرات بل مئات مليارات الدولارات لدعم جماعات التكفير “القاعدى” و”الداعشى” وغيرهم ، وتلويث الثورات الشعبية ، وبما أحرق الأرض ومهدها لتوحش النفوذ الإيرانى ، وتضخم الجماعات الموالية لإيران ، وجعلها الرقم الإقليمى الأصعب فى معادلة المشرق والخليج العربيين ، ولأن الأقوياء لا يحترمون سوى حقائق القوة ، كان طبيعيا أن تسعى واشنطن إلى تفاهم مع إيران ، بعقد الاتفاق النووى معها أيام باراك أوباما ، ثم بمفاوضات العودة المتلكئة إليه بعد فشل عقوبات ترامب القصوى ، وعودة طهران لمركز أفضل فى لعبة “شد الحبل” مع الرئيس الأمريكى الجديد جوبايدن ، وتوسيع دوائر مناوراتها بخرق نصوص الاتفاق النووى ، وإلى حد الصعود بمعدل تخصيب اليورانيوم فى منشأة “نطنز” إلى 60 % ، وهو معدل يقترب من حاجز التسعين بالمئة اللازم لصناعة القنبلة الذرية ، واشتراط إيران رفع كامل العقوبات الأمريكية مقابل مراجعة إجراءات زيادة التخصيب ، والتهديد بقلب المائدة على الأطراف كلها ، خصوصا بعد كسب إيران لتأييد موسكو وبكين المنغمستين معا فى حرب نفوذ كونى مع واشنطن ، فلم تعد إيران فى عجلة من أمرها ، وبالذات بعد “الاتفاق الصينى الإيرانى” المبرم مؤخرا ، ويمنح طهران فرصة كسب 400 مليار دولار استثمارات صينية على مدى ربع القرن المقبل ، وبما قد يجعل أثر العقوبات الأمريكية فى خبر كان ، وهو ما يخيف كيانات خليجية تخذلها أمريكا ، ويخيف أكثر كيان الاحتلال الإسرائيلى ، المحاط بسلاسل من جماعات النفوذ الإيرانى ، فبرغم نجاح “إسرائيل” فى اختراق الداخل الإيرانى غير مرة ، واغتيالها لأكبر العلماء النوويين الإيرانيين “على فخرى زادة” بالقرب من طهران ، وتعطيلها الموقوت لمنشأة “نطنز” مؤخرا ، وهجماتها على القوات والسفن الإيرانية ، إلا أن طهران لا تزال تبدى مقدرة ظاهرة على الرد المؤلم ، وتكسب بمزيج من قوتها الذاتية ، وتفوقها المرئى فى التضاغط والتفاوض والمساومة مع الكبار والصغار ، والاستفادة القصوى من لعبة توزيع أدوار بين “إصلاحيين” و”محافظين” ، كلهم فى خدمة نظام “الولى الفقيه” .
المصدر: القدس العربي