لطالما تجاهل النظام السوري العقوبات الدولية وتحدّاها مستهزئاً، مثلاً، بالاتحاد الأوروبي، الى حدّ “نسيان أنه على الخريطة” (وزير الخارجية الراحل وليد المعلم)، لكنه يلقي على هذه العقوبات أزمته المتفاقمة اقتصادياً منذ أكثر من عامين، وخاصة بعد انهيار النظام المصرفي اللبناني وشروع الإدارة الأميركية بتطبيق “قانون قيصر”، وإقدام رئيس النظام بشّار الأسد على تفكيك “امبراطورية” ابن خاله رامي مخلوف لمصلحة مؤسسات أسماء الأسد، ما زعزع ثقة رجال الأعمال بحكمه، حتى الذين أثروا بفضل التسهيلات والأفضليات التي تلقّوها منه. وعشية التجديد لنفسه، يتخوّف رأس النظام من تآكل شرعيته في الداخل ومن ضغوط داعميه ورافضيه في المرحلة المقبلة.
في كل الانتخابات أو شبه الانتخابات التي سبقت الأعوام العشرة للأزمة وتخللتها، بما فيها إعادة انتخاب الأسد رئيساً للمرّة الثالثة عام 2014، لم يأبه النظام لمسألة “الشرعية” التي كانت مزيّفة أصلاً، بل إن القمع الدموي والتهجير القسري لنصف الشعب والتدمير المنهجي للعمران زادتها زيفاً بكل المعايير المتعارف عليها دولياً، حتى في عُرف دكتاتوريات تستخدم القوة لتحافظ على مظاهر “استقرار” داخلي كمؤشّر الى شرعيتها. لكن، للمرّة الأولى، ترافق التحضير لإعادة انتخاب الأسد لولاية رابعة بنقاش داخل الحلقة الضيّقة للنظام حول الصعوبات التي قد تستجدّ وتهدّد شرعيته، فعدا الدول التي نبذت النظام ولم تتعامل معه منذ 2011، هناك دول غربية عدة تقيم اتصالات “غير رسمية” معه تلوّح بنزع الشرعية عنه، تحديداً بهدف الضغط عليه (وعلى روسيا) كي يستجيب تطبيق القرار 2254 لبناء حلٍّ سياسي.
طُرح في السياق تأجيل الانتخابات لمدّة سنة مثلاً، ولدوافع عدّة. أولها ظروف جائحة “كوفيد 19″، فالفيروس متفشٍّ على نطاق واسع، ولعل سوريا الدولة الوحيدة التي لا توفّر أرقاماً للإصابات والوفيات، بل الوحيدة غير المهتمّة باللقاحات، وتقدّر أوساط طبية أن الوفيات تجاوزت الـ150 ألفاً. شخصيات عديدة معروفة، عسكرية وأمنية وحكومية، أصيبت بدرجات خطيرة جداً أو متوسّطة، فيما أكّد قريبون من القصر الجمهوري أن إصابة الأسد وزوجته كانت بـ”نصيحة إعلامية” لاستخدامها في حملة الانتخابات الرئاسية.
الدافع الآخر للتأجيل كان انتظار اتصالات عربية تجريها روسيا لإعادة سوريا الى الجامعة العربية دعماً لشرعية النظام، لكن حتى الدول العربية المتحمّسة لهذه العودة تنقسم بين الخشية من العقوبات الأميركية وبين استغراب شروط النظام نفسه. فعدا رفضه تقديم طلب لاستئناف العضوية في الجامعة، يطالب بمساهمات مالية لتعويم الليرة السورية وضغوط عربية لرفع العقوبات، مستبعداً أي التزامات تتعلق بالحل السياسي، وإنْ لوّح باستعداده للنظر في تقليص الوجود الإيراني.
وهناك أيضاً الدافع المرتبط بالأزمة الاقتصادية المتفاقمة وندرة الوقود التي أغلقت معظم مؤسسات القطاعين العام والخاص والمدارس، لتعذّر انتقال الموظّفين والعاملين والمعلّمين الى أماكن عملهم، فكيف بوصول الناخبين الى مراكز الاقتراع. لكن السبب الأخير ليس بمشكلة، فنتيجة الاقتراع معروفة، وثمة سوابق لـ”تنخيب” ناخبين من دون أن يتجشّموا عناء الحضور للتصويت.
سبق أن أثيرت مسألة الشرعية بقوّة قبل الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب عام 2020، فالأطراف الدولية تعتبر كل انتخابات بعد صدور القرار 2254 (عام 2015) بلا شرعية ما دامت تُجرى من دون إشراف ومراقبة أممييَن ووفقاً لدستور 2012 المرفوض من المعارضة. لكن المبعوث الأممي غير بيدرسون تدخّل لدى العواصم المعنيّة، لأن “نزع الشرعية” كان سيعقّد مسار اللجنة الدستورية التي تضمّ وفداً ممثلاً للنظام وفيه ستة من أعضاء مجلس الشعب، وكان تشكيل اللجنة قد استغرق نحو عامين. وفي الفترة الأخيرة حثّت روسيا بيدرسون على دور مماثل، لئلا يتخذ النظام من نزع الشرعية ذريعة لسحب وفده من “الدستورية”. كانت الجولة الأخيرة للجنة، وهي الخامسة، قد شهدت ذروة العبث والتعطيل المتعمَّد لأي نقاش جدّي، إذ قدّم وفد النظام ورقة بنود للمناقشة من خارج جدول الأعمال المتفق عليه مسبقاً، فطالبه بيدرسون بتغييرها وعاد الوفد بالورقة نفسها لكن بعنوان مختلف. هذه المرّة تحتاج موسكو الى شيء تبيعه لواشنطن، لذا وعدت بأن تكون مشاركة النظام جدّية هذه المرّة، ووضع بيدرسون منهجية جديدة لعمل اللجنة في جولتها السادسة… بعد انتخابات الرئاسة.
الواقع أن الأطراف الداعمة للنظام في الداخل مدركة أن شرعيته تراجعت في بيئته الموالية التي تحمّله مسؤولية تدهور الأحوال المعيشية والانهيار المستمرّ للقدرة الشرائية. هذه البيئة توقعت منه، بعدما أعلن “انتصاره”، أن يبدأ مساراً آخر، لكنها تأكدت الآن أن ليس لديه سوى خيار الحرب، وقد حُسمت بتكريس الاحتلالات الخمس. القوى الخارجية تضغط على النظام مراهنة على أن يتنازل في الحل السياسي مقابل تخفيفٍ للعقوبات، أو على تجدّد الثورة ضدّه في الداخل، لكن الثورة تريد أملاً تكافح من أجله، وتنحصر الآمال حالياً في الحصول على الخبز والوقود والدواء والوقاية من الوباء، وفي كل ذلك ليست لدى الرئيس المرشح لخلافة نفسه وعودٌ أو حلول، أما العقوبات فليست عائقاً أمام توفير هذه الحاجات الإنسانية، شرط أن لا يكون النظام شريكاً مضارباً في المساعدات، على طريقة الحوثيين.
أولوية النظام في اتصالاته العربية وغير العربية تتركّز على شرط الاعتراف بشرعية الأسد ومعاودة العلاقات الرسمية مع دمشق بعد الانتخابات الرئاسية. جاءته فتوى روسية بأن القرار 2254 لا يحظر اجراءها وفقاً لدستور 2012، لكن هذا القرار بُني أواخر 2015 على تفاهم أميركي – روسي لمباشرة الحل السياسي، بحيث يكون هناك دستور جديد يقلّص صلاحيات الرئيس وتُجرى على أساسه انتخابات بإشراف دولي في 2018. نجح النظام والروس في إضاعة ذلك الحل في المتاهة الأممية، فتسببا في تغليظ العقوبات، وهما يبحثان الآن عن شركاء عرب يخترقون جدارها السميك لقاء “تعهّد” من الأسد للعرب ولإسرائيل بـ”نزع الشرعية” عن الوجود الإيراني، على افتراض أنه يستطيع ذلك. وإذا كان يستطيع، نظرياً، فإنه يشترط، عدا إعادة تأهيل نظامه، أن تُرفع العقوبات وتجمّد كل ملفات محاسبته على جرائم الحرب وتؤمّن الأموال لإعادة الإعمار تحت إشراف النظام…
المصدر: النهار العربي