يبدو أن الصين قد حزمت أمرها في الزحف إلى منطقة الشرق الأوسط أخيراً بشكل فاعل، بعد أن كانت خطواتها بطيئة ولا تكاد تعدو أكثر من اختراقات متفرقة هنا وهناك مثل بناء قاعدة عسكرية في جيبوتي بدعوى حماية الملاحة البحرية في تلك المنطقة من خليج عدن إلى السواحل الأفريقية ، أو شركات النفط الصينية في سوريا التي أبرمت عقوداً لإعادة تأهيل آبار النفط والغاز في منطقة الحسكة قبل سنوات قليلة من اندلاع الثورة 2011 ، ولكنّها غادرت تلك المنطقة وقد تركت معدّاتها وراءها بحماية بعض المقاولين من أبناء المنطقة ولكنّها تعرّضت للسطو والنهب والتخريب من قبل الميليشيات الكردية PKK وأهالي القرى المجاورة في نهاية عام 2011 وبداية 2012 وبغض نظر واضح من النظام وربما بإيعاز .
ما حدث في نهاية آذار/مارس المنصرم لم يكن اتفاقًا عادياً بين بلدين يسعيان إلى توطيد العلاقة الاقتصادية بينهما، فهي اتفاقية طويلة الأمد وتمتد لخمس وعشرين سنة بين إيران الخاضعة تحت عقوبات اقتصادية أميركية غير مسبوقة وعقوبات أوروبية أيضاً، والصين التي تواجه حرباً اقتصادية ” غير معلنة بشكل كامل” من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
يقول محللون أن هذه الاتفاقية قد تقلب ترتيبات المنطقة التي رست عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة أنّها لا تحمل طابعاً اقتصادياً صرفاً بل تتعدى ذلك لتشمل الجانب العسكري، إذ إن الاتفاقية تتضمن بنوداً سرية كشفت عنها وسائل الإعلام الأميركية واصفة إياها بالإستراتيجية لتصبح الصين ولأول مرة تطلّ على الخليج العربي ولديها تواجد عسكري قوامه (5000) عنصراً كدفعة أولى تحت عنوان ” مهام أمنية” دون الإفصاح عن طبيعة هذه المهام.
اللافت في هذه الاتفاقية هو التوقيت وطبيعة الاتفاق الذي يمنح الصين حقّ شراء النفط الإيراني بتخفيضات خاصة إضافة إلى تأجيل السداد لعامين قادمين، ناهيك عن البنود الأخرى التي تعطي انطباعاً بأن الصين باتت هي الراعية لإيران وأن إيران ألقت بحملها وأعبائها في حضن التنين الصيني الذي أبدى شهيته للعب دور أكبر في منطقة كانت على مدى عقود طويلة حكراً على الغرب.
لكن إذا ما نظرنا للمشهد من زاوية أخرى يمكننا قراءته على النحو التالي : تزايد ضغط العقوبات الأميركية على الشعب الإيراني قد يزعزع نظام الملالي، مما ينعكس بشكل دراماتيكي على أذرعها الممتدة في العراق وسورية ولبنان وحتى اليمن، الأمر الذي يجعل عملية التحكم بمسارات الصراع في المنطقة صعبة وقد تخرج عن السيطرة كلياً، وكونها لا تنوي تقديم المزيد من التنازلات في الملف النووي، بات لزاماً عليها البحث عن داعم قوي بمستوى الصين حتى لو كلفها ذلك فقدان بعضاً من استقلال قرارها السياسي والدوران في فلك النظام الصيني على الرغم من التناقض الكبير بينهما أيديولوجياً وعقدياً.
الكلفة المادية الباهظة جداً التي لحقت بإيران نتيجة تدخلها في سورية لدعم نظام الإجرام الأسدي وبحسب تصريحات المسؤولين الإيرانيين أنفسهم تتراوح بين 30 إلى 35 مليار دولار، أثرت كثيراً على دورها كلاعب أساسي في القضية السورية وهذا ما لمسناه في الاجتماع الأخير الذي تم في قطر بين وزراء خارجية روسيا وتركيا وقطر، وانفتاح العراق على الخليج العربي وخاصة المملكة العربية السعودية، وقرار الإمارات بضخ 6 مليارات دولار للاستثمار في العراق، مما يحدونا القول بأن العراق على وشك الخروج من العباءة الإيرانية، والاستعصاء السياسي في لبنان وعدم تشكل الحكومة على مزاج حزب الله ، يضاف إلى ذلك التضييق على الحوثيين وتعرضهم لهزائم مهمة في مأرب وتخوم العاصمة صنعاء. كل ذلك يجعل من الاتفاق الصيني/الإيراني الأخير يبدو منطقياً لإنقاذ النظام الإيراني من مأزقه بعد أن استنزفته سياسته التوسعية إلى درجة بات يخشى على نفسه من الانهيار.
يبقى السؤال مطروحاً في عالم تحكمه المصالح، هل تستطيع إيران الاعتماد على حليفها الصيني في معالجة أزماتها السياسية والاقتصادية والأخلاقية داخلياً وخارجياً؟ وهي التي أغرقت نفسها في حروب طائفية لتحقق حلمها بالسيطرة على دول المنطقة لتعيد أمجادها الإمبراطورية البائدة؟ أم أنها استيقظت أخيراً من حلمها لتجد نفسها جزءً من أطماع الآخرين الذين بنوا إمبراطوريتهم ببطء وعلى أسس واقعية ولم تكن مجرّد أحلام؟ وأنّ حياكة السجّاد بإتقان لا تكفي لجعلك تحيك امبراطورية.
المصدر: اشراق