في كل مرة يقرأ المرء فيها، أو يستعرض، الأرقام التي خلّفتها الحرب في سورية على صعيد الإنسان والمادّة، يخالجه إحساس بأمرين. أولهما، أن تكرار قراءة هذه الأرقام لا يدفع إلى الاعتياد عليها، ولا يخفّف أبدًا من وطأة الشعور بالصدمة إزاء الكارثة الكبرى التي حلّت بهذا البلد وأهله (نصف مليون قتيل، 60% من الشعب مشرّد، 40% من البنية التحتية مدمّر .. إلخ). وثانيهما، أن المرء لا يفتأ يتوقف مليًا عند معنى هذه الأرقام ومغزاها، لجهة تعبيرها عن مخزون العنف الكامن وراءها، وهو يحاول الإجابة عن السؤال الجوهري في الأزمة السورية: أين حدث الخطأ، وكيف وصلنا إلى هنا؟
عند طرح هذا السؤال، لا بد أن يتبادر إلى الذهن سريعًا موضوع تحديد المسؤولية، وهو أمر لم يعد، بعد عشر سنوات، يحتاج إلى نقاش، فالنظام هو المسؤول الأول والأخير عن الكارثة التي حلّت بالبلد، إن لم يكن لشيء، فبحكم وجوده في موقع السلطة والمسؤولية، لكن هذه الإجابة السهلة لا تساعد في فهم الأسباب التي أملت على الجميع (النظام والمعارضة والمحايدين أو المستقلين إذا جاز التعبير لوصف من يرفضون النظام والمعارضة معا)، التصرّف بالطريقة التي تصرّفوا بها، إن لجهة الاستعداد لاستخدام أقصى درجات العنف المادي الموصوف، أو حتى مجرّد تأييد استخدام الحصار والتجويع (ضد المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ)، كسلاح حرب وأداة لتحقيق غايات سياسية. إذا شئنا فعلا التوصل إلى إجابةٍ تخرجنا من الدائرة المغلقة التي نعيش فيها منذ عقد واجتراح حل، فإننا نحتاج إلى القفز على اللحظة الراهنة، لنستنتج أن المسألة أعقد وأكثر عمقًا من أن تختصرها هذه الإجابة السهلة، وأن أزمة سورية التي تبلغ عشرة أعوام تمتد جذورها إلى نشأة الدولة نفسها، أي إلى ما قبل مائة عام. وفيما نحاول ذلك، ينبغي أيضا تجنّب الوقوع في مقارناتٍ لا تساعدنا على الفهم، مثل محاولة مقارنة نشأة الدولة السورية بنشأة جمهورية يوغسلافيا السابقة التي ظهرت نتيجة قيام الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى بلملمة ولصق أجزاء غير متجانسة من بقايا الإمبراطورية النمساوية – المجرية، ليس بينها روابط كافية لإنشاء “مجتمع سياسي” قادر على إفراز هوية وطنية جامعة خارج إطار الأجزاء التي تتكون منها (صربيا، كرواتيا، سلوفينيا .. إلخ).
السبب الرئيس في أزمة سورية الراهنة مرتبط بعجز السوريين عن تطوير هوية وطنية جامعة خاصة بهم، لكن تشبيه سورية بيوغسلافيا يفتقر إلى الدقة، ويعدّ تسويغا لتقسيمها وتفتيتها، في حين أن أزمة سورية تنبع من حالة معاكسة تماما للحالة اليوغسلافية، فمنذ الإعلان عن قيام المملكة السورية عام 1920، واجهت الهوية الوطنية السورية ضغوطا على مستويين: فوق الوطني، وقد نشأ عنه رفض النخب السورية، في العموم، الاعتراف بالتقسيمات الاستعمارية وإصرارهم على فكرة أن سورية جزء من كل (بالنسبة للقوميين العرب، هي جزء من أمة عربية تمتد من المحيط إلى الخليج، بالنسبة للقوميين السوريين هي جزءٌ من الهلال السوري الخصيب الممتد من حدود إيران شرقا إلى قناة السويس غربا، ومن حدود تركيا شمالا إلى الحجاز جنوبا. بالنسبة للإسلاميين هي جزء من الأمة الإسلامية. بالنسبة للشيوعيين هي جزء من أممية البروليتاريا العالمية). الثاني هو المستوى تحت وطني، والمرتبط بوجود انقساماتٍ مجتمعيةٍ (مناطقية، طائفية، جهوية… إلخ)، لا يخلو منها أي مجتمع حديث. وقد حاول الفرنسيون تكريس هذه الانقسامات تحت وطنية، عندما قسّموا سورية إلى أربع دول: دولة دمشق، دولة حلب، دولة جبل الدروز، ودولة العلويين، لكنهم فشلوا. المشكلة أن أنظمة ما بعد الاستقلال عجزت عن البناء على هذا الفشل الفرنسي، لترسيخ جذور هوية وطنية سورية جامعة، أخذت تبرز بوضوح بعد الثورة السورية الكبرى (1925 -1927)، من خلال تحويل الكيان السياسي الذي صنعه المستعمر الأوروبي إلى مجتمع سياسي (Political Community)، يشترك أفراده في سلوك وقيم وثقافة المواطنة والانتماء الوطني. وقد برز هذا الفشل بقوة خلال الأزمة الراهنة، إذ افتقد السوريون في ما بينهم التضامن الذي يشعر به عادة أفراد الجماعة الواحدة (community)، فانقسموا سريعا إلى جماعاتٍ وجدت كل واحدة منها امتداداتها خارج الحدود، فاستعانت بها على الجماعات الأخرى. وهذا يعني أننا لن نخرج من الأزمة إلا إذا امتلك السوريون وعيًا جمعيًا وشعورا تضامنيا بأن ما حصل كارثة وطنية، وأن من يحاول زرع وهم أن جزءا منهم انتصر على الآخر إنما يساهم في تدمير ما تبقى من أسس عيشهم المشترك.
المصدر: العربي الجديد