مع تنامي صراع الشركات عالميا، وصعود العلامات التجارية العابرة للقارات التي تسعى باستمرار للاستحواذ على أكبر مساحات من الأسواق حول العالم بغض النظر عن اختلاف ثقافاتها أو مواقعها الجغرافية أو ألسنتها الناطقة، بدأ مفهوم “السوق” يتحوَّل في نظر الكثير من الشركات إلى ما يُشبه “ساحة الحرب”، وبدأت في الظهور مقاربات عدّة تقول إن هناك قواسم مشتركة ما بين “إستراتيجيات التسويق” و”الإستراتيجيات العسكرية”، باعتبار أن الهدف من كلتيهما هو الفوز في “السوق/ميدان المعركة”.
إستراتيجيات التسويق الحربية (Marketing Warfare strategies) التي تستلهم التطبيقاتِ العسكريةَ في عالم الأعمال بدأت في الظهور بشكل ملحوظ في الثمانينيات عندما بدأ الربط بين القواعد الحربيّة للصيني الشهير “صن تسو” وكتابه “فنّ الحرب” وبين عالم الأعمال، ثم توسَّع في استخدام هذه المقاربة المُتخصِّصون مثل “فيليب كوتلر” و”براين ترايسي” في استخدامها في كتاباتهم المُتخصِّصة حول التسويق تحديدا. (1، 2، 3)
إذا سلَّمنا بهذه المقاربة وبدأنا في استعراض أوجه التشابه بين الإستراتيجية العسكرية والتسويقية، فلنفترض الآن أنك “قائد قوّات التسويق” الذي يستلهم الإستراتيجيات العسكرية في وضع خطته التسويقية التي تُتيح له الزحف في الأسواق، وتحييد الخصوم والتوسُّع في أراضيهم، والأهم: عدم التعرُّض لهزيمة ساحقة. (4، 5، 6)
في الإستراتيجيات العسكرية، تأتي “الاستخبارات” في المرتبة الأولى بوصفها أهم عناصر التفوُّق في ميدان المعركة، فالحصول على معلومات عن العدو وتحرُّكاته واتجاهاته، ومعرفةُ مستوى تجهيزاته وأيضا معرفةُ خصائص ساحة الحرب نفسها، تُعَدُّ الأساس الذي ينبني عليه وضع خطة عسكرية مُحكَمة تضمن التفوُّق الميداني عليه.
الاعتماد على “الأفكار الجيّدة” فقط في عالم التسويق غالبا ما يؤدي إلى خسارة الشركات، بينما الاعتماد على المعلومات الصحيحة عن السوق وتحليلها بشكل جيد هي التي تؤدي إلى صمود الشركات
في عالم التسويق، تأتي “أبحاث السوق” (Market Research) مقابلا مُطابقا تماما تقريبا لمفهوم “الاستخبارات” العسكري. أبحاث السوق باختصار هي البحث عن المعلومات الصحيحة بخصوص طبيعة السوق والمنافسين وعناصر قوتهم وضعفهم وإمكانياتهم، قبل البدء في وضع خطة التسويق التي تقوم على هذه المعلومات وتضعها في اعتبارها، بدلا من وضع خطط تسويقية قائمة على الخيال وليس الواقع.
السوق -أي سوق- ليس عالما مثاليا معروف القوانين، في الواقع العكس تماما هو الصحيح. كل يوم يحدث تقلُّب مفاجئ في السوق، دخول منافسين جدد، خروج منافسين تقليديين، دخول تقنيات جديدة تُغيِّر مسار اللعبة تماما، عزوف المستهلكين عن المنتجات والخدمات الحالية وتحوُّلهم إلى سوق آخر. لذلك، فإن الاعتماد على “الأفكار الجيّدة” فقط في عالم التسويق غالبا ما يؤدي إلى خسارة الشركات، بينما الاعتماد على المعلومات الصحيحة عن السوق وتحليلها جيدا هي التي تؤدي إلى صمود الشركات لوقت أطول.
ومع أن أبحاث السوق اليوم تُنجز بطرق عملية متنوِّعة بحسب نوعية الشركات والأسواق التي تتحرَّى المعلومات عنها، فإنه يمكن القول إن بحوث التسويق مع اختلافاتها ترتكز على إجابات لأربعة أسئلة محددة: مَن هم عملاؤك؟ وأين يقعون؟ وكيف ولماذا يشترون؟
يُحدِّد الجواب عن السؤال الأول شريحة العملاء الذين تستهدفهم، فيما يُحدِّد الثاني جغرافيا وجودهم، أما الثالث فيُحدِّد الآليات التي سيشتري من خلالها العميل منتجك، والرابع -وهو الأهم- يُحدِّد “القيمة” التي تجعل العميل يُقدم على شراء منتجك تحديدا دون المنتجات الأخرى في السوق، ما يعني ضرورة تقديم قيمة إضافية في منتجك تزيد على المنتج الموجود حاليا، ما يعني أيضا بالضرورة دراسة منتجات المنافسين في السوق دراسة موسَّعة.
الإستراتيجية التسويقية مثل الإستراتيجية العسكرية، تبدأ بدراسة ميدان السوق وما يحتاج إليه العملاء بالضبط، وأيضا دراسة الخصوم الموجودين والمتوقَّعين في هذا السوق، ومن ثمّ دراسة آليات جديدة للهجوم والدفاع والثبات والحفاظ على حصص كبيرة من السوق. (7)
بعد جمع المعلومات الميدانية بقنواتها كافة وتحليلها تحليلا كافيا، يبدأ العسكريون في وضع خطط التحرُّك باستهداف خطوات معينة تضمن لهم التفوقَ على العدو والاستحواذَ بشكل أكبر على ميدان المعركة. هذا هو نفسه ما يقوم به المسوِّقون بعد إتمام مرحلة “أبحاث السوق” (Market Research)، فتبدأ مرحلة وضع “خطة العمل” (Business plan) التي تتضمَّن أهدافا محددة (Targets) لإنجازها بوضوح يضمن لهم الاستيلاء بشكل أكبر على “السوق”.
خطة العمل التسويقية يجب أن تشتمل على أهداف واضحة مُقاسة وقابلة للتنفيذ، خطة لتنظيم العمل والتكاليف والموارد اللازمة لبدء أنشطة التسويق، وضع تصور دقيق للنتائج المالية المتوقعة، المعايير التي يجب استخدامها لقياس الأداء، وغيرها من عناصر خطة العمل.
خطة العمل في جانبها التسويقي يجب أن تشتمل على أهداف واضحة تضم أرقاما وتواريخ وأدوات تنفيذية، وهي أرضية يتفق فيها كلٌّ من العسكريين والمسوِّقين يُلخِّصونها في قاعدة: لا يمكن أن تُصيب هدفا لا تراه، وما يمكن قياسه فقط هو الذي يمكن تحقيقه.
عالم الأعمال مثله مثل الحرب، قتال ضارٍ بهدف النجاة والانتصار. والنجاة والانتصار يحتاجان إلى حالة دائمة من الهجوم، خصوصا في ظل تقلُّبات الأسواق في السنوات الأخيرة.
القاعدة العسكرية الشهيرة والمعروفة: “لا يتحقَّق الانتصار في المعارك الكبيرة بالدفاع”. يُقال إن صاحب هذه المقولة هو نابليون بونابرت -الحربيّ الفرنسي الشهير- لكنها قطعا قاعدة عسكرية قديمة قِدَم الدهر تُلخِّص الأساس الذي يقود إلى تحقيق الانتصارات في المعارك. القاعدة نفسها أيضا يمكن تطبيقها في عالم الأعمال، فقط إذا اعتبرنا أن المقابل لكلمة “دفاع” العسكرية هي “منطقة الراحة” (Comfort Zone) التسويقية.
لا يمكن تحقيق إنجازات كبيرة في الأعمال من خلال البقاء في منطقة الراحة، تقليد ما هو موجود في السوق طوال الوقت، حملات تسويقية مقلَّدة ومكرَّرة وساذجة ونمطية، أفكار قديمة معتادة، الخوف من تجربة الأفكار الجديدة. التسويق مثله مثلُ الحرب، من الضروري تجربة أمور وأفكار جديدة والتخلُّص من الأفكار القديمة غيرِ الفعّالة.
كلما زاد عدد الأفكار الجديدة التي تختبرها تسويقيا، زادت القدرة على الوصول إلى طريقة مثالية لتقديم المنتج والخدمة لعدد أكبر من العملاء الجدد، والتوسُّع لتشمل شرائح أكبر من السوق. أما البقاء في حالة الدفاع و”منطقة الراحة” ومقاومةُ التغييرِ واختبارِ الأفكارِ والركونُ إلى أنماط تسويقية تقليدية “آمنة” فهو حتما أسلوب لن يجعلك تنتصر في المعارك الكبيرة، ربما العكس هو ما سيحدث: الهزيمة.
مبدأ التكتُّل (The principle of Mass) إستراتيجية عسكرية شهيرة تعني تركيز قوتك كلها في المكان والوقت الصحيح. أن تُحدِّد نقاط ضعف عدوّك، ثم تُركِّزَ قواتك أكثر على مناطق ضعفه في أوقات محددة لتُسبِّب له أكبر قدر من الخسائر، ومن ثم الاستحواذُ على مساحات أكبر من ميدان المعركة بعد توجيه هذه الضربة. (8)
الأمر نفسه بالنسبة لعالم التسويق، دراسة السوق جيدا وتحديد نقاط القوة والضعف التي يمتلكها الخصوم، ومن ثمّ توجيه مواردك كافة لاستهداف نقاط الضعف في المنتج أو الخدمة التي يُقدِّمها منافسوك، بطرح منتجات وخدمات أفضل تُقدِّم قيمة مضافة أكثر جذبا للعميل، وبالتالي كسب مساحات جديدة في الأسواق.
استهداف نقاط ضعف المنافسين بطرح البدائل الأكثر جودة والأرخص والأكثر تماشيا مع متطلبات السوق في مرحلة معينة تُعتبر واحدة من أبرز إستراتيجيات التسويق وأكثرها نجاحا في جذب أرباح هائلة واستحواذات كبرى على الأسواق، حتى لو كانت من طرف شركات صغيرة ناشئة تواجه شركات عملاقة راسخة في السوق منذ عقود.
في التعريف العسكري، تُعرف المناورة غالبا بأنها القدرة على التحرُّك السريع والاستعداد الدائم لتجربة أساليب وطرق مختلفة للهجوم على العدو. في عالم التسويق، غالبا ما يقابل مفهوم المناورة العسكرية مُصطلح “إدارة الابتكار” (Innovation Management)، بمعنى إيجاد طرق متجددة أفضل وأكثر سرعة وتميُّزا في تطوير المنتج وجعله أكثر جاذبية، وأيضا التواصل الأفضل مع العملاء.
إدارة الابتكار عادة هي القوة الدافعة للشركات لتمكينها من الحصول على مكتسبات أكبر في السوق بإمكانيات أقل. الابتكار في التسويق، الابتكار في الإعلانات الجاذبة للفئة المستهدفة، الابتكار في التواصل مع العملاء، الابتكار في إستراتيجيات الحفاظ على العملاء، الابتكار في القرصنة على عملاء الشركات الأخرى وجذبهم لمنتجك أو خدمتك.
عموما، إحدى أهم طرق زيادة الإبداع في مجال التسويق تحديدا هو دراسة الحملات التسويقية الإبداعية للمنافسين وغيرهم، ومن ثمّ البدء في تبنِّي أنماط تسويقية إبداعية تتجاوز أفكار المنافسين.
أثناء الحرب العالمية الثانية، قامت قوات الحلفاء بعمليات إنزال قوّاتها الضخمة في مدينة نورماندي، على الرغم من أن الإنزال المتوقَّع كان في مدينة كاليه. كل القواعد والقوانين العسكرية “البديهية” كانت تُحتِّم أن ينزل الحلفاء قواتهم في كاليه، لكن إنزالهم القوات في نورماندي كان بمنزلة ضربة قوية للألمان عجَّلت بهزيمتهم وانتصار الحلفاء في الحرب. (9)
في عالم التسويق، يمكن أن تُوجِّه بعض الشركات ضربة مفاجئة لمنافسيها في السوق لتتحوَّل المعادلة تماما. أهم مثال على الضربات المفاجئة بالطبع كانت ضربة شركة “آبل” العملاقة التي أصدرت في عام 2007 نسختها الأولى من هاتف الآيفون الجديد إلى السوق العالمي، الذي اعتُبر هزة كاملة في سوق الهواتف المحمولة أدَّى في النهاية إلى انهيار شركات كانت تتسيَّد الساحة مثل نوكيا، وصعود منافسين جدد في سوق أُعيد تشكيله بالكامل. (10)
واحد من أكبر الأخطاء الشائعة في عالم الأعمال هو ميل البعض للمحافظة على مسار تقليدي هادئ يمكن التنبؤ به، بدون تحقيق مفاجآت من وقت لآخر. هذا لا يعني بالضرورة أن تقوم كل الشركات بتصميم وصناعة منتجات وخدمات جديدة، ولكن في المقابل من الضروري أن تضع الشركات مسارا للتطوير وإعادة هيكلة المنتجات والخدمات هيكلة ذكية وجديدة تجذب العملاء بشكل أوسع، ويُشكِّل قفزة كبيرة في أداء الشركة في الأسواق.
في الإستراتيجيات العسكرية يُعتبر “التنسيق بين القوات” واحدا من أهم عوامل قوة الجيوش وتماسكها. التنسيق بين مختلف أنواع القوات، الجوية والبحرية والبرية وغيرها، تحت قيادات مفصلية تتخذ القرارات الصحيحة التي تُنسِّق فيما بينها عند شنِّ الهجوم على العدو هو الأساس الذي يزيد من فرص التفوُّق الميداني. في عالم التسويق، يقابل “التنسيقَ بين القوات” مفهومُ “العمل الجماعي” (Team Work) بين الأفراد والإدارات المختلفة، بدءا من قطاعات الإنتاج، ومرورا بمندوبي المبيعات وممثلي خدمة العملاء، وليس انتهاء بالبائع الذي يتعامل مباشرة مع العميل أثناء وبعد شراء المنتج.
ألفريد سلون يُعتبر أسطورة بالنسبة لشركة “جنرال موتورز” الأميركية العملاقة باعتباره كان واحدا من أشهر مديريها التنفيذيين وأكثرهم تأثيرا في نمو الشركة في النصف الأول من القرن العشرين. الرجل استطاع خلال فترة رئاسته وإدارته التنفيذية لـ “جنرال موتورز” أن يُحوِّلها إلى واحدة من أكبر شركات العالم وأحد رموز الهيمنة الأميركية على المجالات الصناعية والتقنية.
يُروى عن سلون قصةٌ شهيرةٌ تُوضِّح واحدة من أهم عاداته الإدارية، حيث كان يتوقَّف عن الذهاب إلى مكتبه في الشركة لمدة أسبوع كامل شهريا، يبحث عنه الجميع في ذلك الأسبوع فلا يجدونه ولا يعرفون أين يختفي بالضبط، ثم يظهر بعد مرور هذا الأسبوع في مكتبه عاديا تماما دون أن يخبر أحدا أين كان خلال هذه الفترة. لاحقا، اتَّضح أن سلون كان يتوجَّه لمدة أسبوع كامل للعمل لدى أحد وكلاء سيارات شركة “جنرال موتورز”، يستمع عن كثب إلى تواصل وتفاعل موظفي الوكالة مع الزبائن، ويُدوِّن كل الملحوظات والتعليقات التي يسمعها من الموظفين والعملاء بخصوص نقاط قوة وضعف العروض الحالية للشركة. (11، 12)
بعد نهاية هذا الأسبوع يعود “سلون” إلى مكتبه الفخم وهو على علم كامل بنقاط القوة والضعف ومسار عمل الشركة بناء على مشاهدات دوَّنها وكتبها بنفسه ونسَّقها مع البائعين في أحد المتاجر المباشرة مع الزبائن، ولديه المعلومات التي تُمكِّنه من توجيه الشركة واتخاذ القرارات الصحيحة بخصوص تطوير المنتجات والعروض والتسويق الفعّال لها.
ما فعله سلون يُعتبر نموذجا واضحا لـ “العمل الجماعي”، المدير التنفيذي للشركة يتعاون مع إحدى الوكالات ويستمع إلى آراء موظفيها من ناحية، وآراء العملاء وانطباعاتهم من ناحية أخرى، ثم يعود ليتخذ إجراءات صحيحة للمزيد من تطوير العمل على مستوى المنتج أو الخدمة أو رضا العملاء.
في النهاية، ما ينطبق على عالم الحروب ينطبق بشكل من أشكاله على عالم الأعمال، بدءا من مفهوم “الحرب خدعة”، وليس انتهاء بإستراتيجيات الهجوم الكاسح للاستيلاء على مساحات أوسع وتحقيق أهداف إستراتيجية وإجلاء الخصوم “المنافسين” منها. يظل توصيف الحرب قائما في النهاية لكلا العالمين: العسكري والسوقي، تجمعهما قاعدة الفِكر والتخطيط الذكي، وتُفرِّقهما أدوات التنفيذ.
—————————————————————————–
المصادر
Marketing warfare strategies
The Art of War
Marketing Warfare: How to Use Military Principles to Develop Marketing Strategies
7 military principles you should apply to your business strategy
Military Principles You Should Apply to Your Business Strategy
كتاب (التسويق) – براين برايسي
How to Do Market Research: A 6-Step Guide
Principles of War: Mass
غزو النورماندي
iPhone (1st generation)
ألفريد سلون
جنرال موتورز
المصدر: الجزيرة. نت