يشير المفهوم الأرسطي “الوجود بالقوة والوجود بالفعل” إلى أن المادة في الوجود تكون في حالة هيولى ـ لامتعينة (لا شكل لها) تسمّى القوة، ثم تحدُث متغيراتٌ فيها تمنحها شكلا ما، فتنتقل عندها إلى حالة الفعل. شكل المفهوم الأرسطي هذا نقلةً فكريةً مهمةً في تفسير نشوء الطبيعة وصيرورتها، ثم انتقل هذا التفسير إلى الظواهر الاجتماعية، خصوصا في الحالات التي تحدُث فيها انقطاعاتٌ كبرى بين مرحلة وأخرى (مثال الثورات)، حيث يكون المجتمع في حالةٍ لا متعينة (القوة)، ثم ينتقل إلى حالة متعينة (الفعل)، غير أن تعقد الظاهرة الاجتماعية، وافتقادها حالة الاضطراد التي تتمتع بها الطبيعة، حالا دون تحوّل المفهوم الأرسطي أعلاه إلى قانون ناظم، أو على الأقل، جعل مسار الظاهرة من القوة إلى الفعل في الحالة الاجتماعية يختلف عن مسارها في حالة الطبيعة. ينطبق ذلك على الوضع السوري، حين شهد عام 2011 انفجارا اجتماعيا ـ سياسيا، بدأ معه مسار انتقال الوضع السوري من حالة القوة إلى حالة الفعل، ونشأت لحظةٌ في الكينونة السورية تفيد بأن حالة القطيعة مع المرحلة السابقة قد دنت، وأن حالة الفعل تقترب من التحقق. غير أن أحداث السنوات السبع الأولى كشفت حدوث عطالةٍ في مسار الانتقال إلى حالة الفعل (لأسباب لا مكان لتعدادها وشرحها هنا)، الأمر الذي أعاد الوضع السوري إلى حالة القوة، الحالة اللامتعينة التي يفقد فيها الفاعلون المحليون والإقليميون والدوليون القدرة على الفعل، أو بالأصح القدرة على إحداث حالة متعيّنة ثابتة يصعب تغييرها.
هكذا، دخل الوضع السوري، منذ نهاية عام 2018، في حالة ستاتيكو استراتيجي، ودخلت الأطراف في حالة عجز. والمقصود بذلك أن حالة الجمود والسكون ليست مؤقتةً نابعة من توافق إقليمي دولي، بقدر ما هي حالةٌ فرضت فرضا بسبب كثرة الفاعلين، وعدم قدرة أي واحد منهم على فرض أجندته، فتحولت الساحة السورية إلى مكاسرةٍ للإرادات، وفق منطق الصبر الاستراتيجي الذي يجعل كل طرفٍ يحتفظ بما حققه على الأرض، ريثما تحدُث متغيراتٌ من شأنها أن تنهي حالة الجمود لصالح هذا الطرف أو ذاك.
جاءت المواقف الدولية في الذكرى العاشرة للثورة، لتؤكد أن الملف السوري لا يزال يحظى بالأولوية لدى المجتمع الدولي، لجهة ضرورة إنهاء حالة الاستبداد وتحقيق الانتقال نحو الديمقراطية، مع التأكيد المستمر على معاقبة أركان النظام السوري على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها بحق الشعب السوري. ولكن هذه المواقف أظهرت، في المقابل، حالة العجز الاستراتيجي المشار إليها أعلاه، فقد اكتفت بالتوصيف والتوصيف المضاد: موسكو تعلن على لسان وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، أن الخطط الأميركية ستؤدي إلى تقسيم سورية، وأن العقوبات الاقتصادية تؤذي الشعب السوري، ترد واشنطن على لسان وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، بأن الفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية على أيدي النظام السوري أدّيا إلى تفاقم الأزمة الإنسانية. وعلى الخطى نفسها، يسير الاتحاد الأوروبي الذي أعلن على لسان المفوض الأعلى لشؤون الخارجية والأمن، جوزيف بوريل، أن النظام هو المسؤول الأول عن الأزمة الإنسانية، وليس العقوبات. ويحاول الروس شرعنة “الانتخابات الرئاسية” المقبلة لدى النظام، أو على الأقل فصلها عن مسار جنيف، فيما ترفض المنظومة الغربية الانتخابات، وتعتبرها غير شرعية.
تغيب عن هذه المواقف والمواقف المضادة أية رؤية للحل السياسي في سورية، وتحل محلّها مقاربة الخطوة ـ خطوة التي تعتمد من الجانب الأميركي على الأثقال السياسية والاقتصادية بعيدة المدى، وتعتمد من الجانب الروسي على القدرة على امتصاص هذه الأثقال، مع محاولة تدوير الزوايا إن أمكن، وتحويل الوضع السوري إلى أزمةٍ إنسانيةٍ عالمية، تستدعي إجراء تغيير في آلية التعاطي معها. أما النظام السوري، فلا يبدو أنه مثقلٌ بالأحمال السياسية والعسكرية، وإن كان مثقلا بالأعباء الاقتصادية، وسياساته الإجرامية في الداخل كفيلة بإبقاء الشعب في حالة سكون، مهما تعاظمت الأوضاع الاقتصادية عليه.
سياسة تمرير المراحل التي برع فيها حافظ الأسد يستعيدها الأسد الابن اليوم، وقد لاحت في الأفق ثمار هذه السياسة: دولٌ كانت في الأمس القريب معاديةً للنظام، ثم اتخذت مواقف محايدة، والولايات المتحدة تتفاوض مع إيران للعودة إلى الاتفاق النووي، مع ما يعنيه ذلك من انفراجٍ سيشهده الاقتصاد الإيراني، سينعكس بالضرورة إيجابا على النظام السوري.
وأمام هذا الوضع، سيبقى كل طرف يعمل على تقوية أوراقه ما أمكن، والدخول في مكاسرة سياسية واقتصادية مع الطرف الآخر، إلى حين نضوج شروط الحل السياسي التي لا تبدو متوفرة في الأمدين، القريب والمتوسط.
المصدر: العربي الجديد