يبدو وكأن هناك علاقة “قدرية” غير قابلة للتفسير، تربط بين الوصول إلى ذروة غير مسبوقة لأزمة الوقود في سوريا، في نيسان/أبريل من كل عام، وبين حصول انفراجة مؤقتة للأزمة، في الشهر نفسه.
تكرر ذلك في نيسان/أبريل من العامين 2019 و2020. وها هو يحدث للمرة الثالثة على التوالي، في نيسان/أبريل من العام الجاري، حيث وصلت أزمة شح الوقود في مناطق سيطرة النظام، إلى ذروة جديدة غير مسبوقة، دفعت الإعلام الروسي إلى الإقرار بأنها أسوأ أزمة على الإطلاق. لكن البحرية الروسية، ستسارع لإنجاد حليفها بدمشق، وسترافق على الأرجح 3 ناقلات نفط إيرانية تتجه إلى الشواطئ السورية، بعد أن سبقتهم ناقلة أولى إلى مصفاة بانياس، بصورة دفعت وزارة النفط إلى إصدار بيان، أشبه بـ “بشرى سارة” تزفها للسوريين، تفيد باقتراب “الفرج”، الذي سيتيح متنفساً ربما لأسابيع فقط، قبل الولوج إلى أزمة جديدة.
الأزمة الأخيرة، تسببت بها حادثة إغلاق قناة السويس، بصورة مباشرة. لكن ما مهد لها، هو تصاعد حرب الناقلات، بين إسرائيل وإيران. لتأتي حادثة إغلاق القناة، وتدفع الأزمة إلى مدىً غير مسبوق. ذلك التفسير الظاهري، يوضح –بصورة سطحية- ما حدث. وفي الوقت نفسه ، يعطي إيحاءً، بأن روسيا وإيران، حريصتان على صمود حليفهما – الأسد-، فيما تستهدفه إسرائيل. لكن التمعن في التفاصيل، يدفع إلى قراءة أعمق، وأكثر تعقيداً.
في نهاية شهر نيسان/أبريل من العام الفائت، رصد موقع “تانكر تراكرز”، المتخصص في تتبع ناقلات النفط، وصول سفن نفط إيرانية، تحمل أكثر من 6.8 مليون برميل، إلى ميناء بانياس السوري.
الموقع ذاته، تحدث قبل يومين، عن اقتراب وصول 4 ناقلات نفطية إيرانية إلى الميناء ذاته، تحمل هذه المرة حوالي 3.5 مليون برميل.
نظرياً، لا تغطي الكمية الأخيرة الاستهلاك المحلي في مناطق سيطرة النظام، إلا لـ 35 يوماً فقط. لكن النظام يستعد لديمومة أطول للكمية القادمة، عبر سياسة تقشف تحدّ من النشاط الحكومي، بعد تعليق دوام الموظفين أو تخفيض مدته، لـ 10 أيام. إلى جانب التخفيضات الأخيرة التي فرضتها حكومة النظام على مخصصات البنزين المدعومة. فمن يريد الحصول على البنزين، فليتجه إلى السوق السوداء. وهذا بيت القصيد. فالروس يحمون بعض الناقلات، والإيرانيون يوردون كميات كبيرة من النفط إلى سوريا، ونظام الأسد يموّل السوق بكميات محدودة من النفط المدعوم، فيما يلعب دوراً في بيع الكميات الأكبر من النفط الإيراني عبر السوق السوداء.
هذا ما ذهبت إليه، كل من المعارضة الإيرانية -عبر مصادرها في الداخل الإيراني-، ووزارة الخزانة الأمريكية، التي تستند إلى معلومات استخباراتية، وذلك في تقارير صدرت عن الجانبين، خلال العام الفائت.
ففي نيسان/أبريل 2020، قال موقع راديو فاردا الإيراني المعارض، إن نظام الأسد في سوريا حلّ محل الصين، في المرتبة الأولى بين مستوردي النفط الإيراني. وقال الموقع، إنه منذ فرض العقوبات الأمريكية على إيران في أيار/مايو 2019، يصل إلى سوريا، بصورة وسطية، حوالي 2 مليون برميل نفط شهرياً. لكن هذه الكمية ترتفع إلى أعلى من ذلك، في بعض الأوقات. وهو ما يفسّر حصول انفراجات مؤقتة لأزمات الوقود المُستدامة في سوريا.
وتتفق وجهة النظر الأمريكية، جزئياً، مع المعارضة الإيرانية، إذ يشير تقرير صادر عن وزارة الخزانة الأمريكية، في أيلول/سبتمبر 2019، إلى أن إيران نقلت نفطاً بمئات ملايين الدولارات عبر شبكة شحن، سرّية، يشكّل كل من “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، وحزب الله، ونظام الأسد، أذرعاً رئيسية فيها. وذلك التقرير غطّى فقط الفترة بين أيار/مايو 2019 – تاريخ فرض العقوبات الأمريكية على إيران- وأيلول/سبتمبر 2019، تاريخ صدور التقرير. أي أن إيران نقلت –على الأغلب- نفطاً بمليارات الدولارات، عبر شبكة الشحن السرّية تلك، حتى اليوم.
ووفق التقرير الذي تحدث عنه باستفاضة تحليل نشره “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”، قبل يومين، فإن شركات روسية، تشارك في تسهيل شحن ملايين البراميل من النفط إلى نظام الأسد، فيما يسهّل الأخير عبر “مصرف سورية المركزي”، نقل الأموال –ثمن النفط- إلى حزب الله. ومقابل هذه الخدمات، يحصل نظام الأسد على حصّة من النفط الإيراني، بأسعار أقل من الأسعار العالمية، لكن، ليس مجاناً.
هذه الشبكة المعقّدة، لبيع النفط خلسةً، بعد فرض العقوبات الأمريكية في 2019، هي ما دفع إسرائيل إلى استهداف بعض ناقلات النفط التي تعتقد أنها تحمل نفطاً إيرانياً، إلى سوريا، تحديداً. وهو ما أدى إلى انخراط إيران بنشاط مضاد يستهدف بعض سفن الشحن البحري التابعة لإسرائيل. أي أن الأخيرة لم تكن تستهدف، بصورة أساسية، نظام الأسد، الذي تضرّر من حرب الناقلات، ولم يعد يحصل على حصّته من النفط الإيراني، بانتظام، فتفاقمت أزمات الوقود في مناطق سيطرته.
وهكذا، يبدو النفط الذي لا يصل إلى سوريا، في وقته، أشبه بقصّة ذات وجهين. فهي من السطح، قصّة صمود لنظام يكافح العدو الإسرائيلي، ويسانده حليفاه المخلصان، إيران وروسيا. أما من الباطن، فهي قصّة بيع وشراء، وسمسرة. فإيران التي تعجز عن بيع نفطها بشكل شرعي، بسبب العقوبات الأمريكية، تتمكن من تصريف جزء منه، والحصول على ثمنه، من جيوب السوريين، الذين يضطرون للجوء إلى السوق السوداء، لشراء الكميات التي يحتاجونها من الوقود، والتي لا يتمكنون من الحصول عليها عبر قنوات الدعم الحكومي. وهنا يأتي دور نظام الأسد، الذي يحرص، يوماً تلو الآخر، على تقليص جدوى قنوات الدعم تلك، لصالح سوق سوداء، يكون هو ذاته، المورّد الرئيس لها.
المصدر: المدن