تقاطعت خطوط عدة، في الآونة الأخيرة، ساهمت في إشاعة أوهام لدى سوريين معارضين لنظام الأسد الكيمياوي بشأن اقتراب لحظة التخلص منه. من ذلك أن «المجتمع الدولي» بدوله ومنظماته المختلفة، أصدر، بالتزامن مع انقضاء عشر سنوات على بداية الثورة السورية، بيانات وتصريحات يمكن اعتبارها متشددة تجاه النظام، رفض فيها الاعتراف بشرعيته أو شرعية الانتخابات الرئاسية التي يستعد لإجرائها «بمن حضر» من السوريين، بعد استبعاد نصف السكان بين لاجئين ونازحين ومعتقلين، وبعد تجويع وتركيع النصف المتبقي «في حوزته». ورفضت تلك الدول والمنظمات أي مساهمة في إعادة الإعمار قبل الشروع في الحل السياسي وفق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
… ومنها الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الخانقة التي تعاني منها مناطق سيطرة النظام، إضافة إلى مفاعيل انتشار وباء كورونا في ظل غياب أي موارد لمواجهته. ومنها تحركات دبلوماسية بدا وكأنها تشي بجديد بعد انسداد أفق الحل السياسي على الطريقة الروسية، كجولة لافروف الخليجية وإطلاق «آلية ثلاثية» جديدة للتعامل مع المسار السياسي، حلت بموجبها قطر محل إيران في آلية آستانة. وبموازاة ذلك تطايرت في الفضاء الافتراضي سيناريوهات ومشاريع سياسية أبرزها «المجلس العسكري».
… ومنها بداية اهتمام الإدارة الأمريكية الجديدة بالمشكلة السورية، سواء في مجلس الأمن أو من خلال بعض تصريحات المسؤولين الأمريكيين.
بالنسبة للنقطة الأخيرة اتضح أن إدارة جو بايدن لا جديد لديها بشأن سوريا غير مواصلة فرض العقوبات على النظام وتشديدها باطراد، كآلية وحيدة للضغط عليه «بهدف دفعه إلى السير قدماً في العملية السياسية» أو لفتح المعابر للمساعدات الدولية المخصصة للنازحين، ومن جهة أخرى مواصلة دعم «قوات سوريا الديمقراطية» في منطقة نفوذها شرقي نهر الفرات. بالمقابل، كان الناطق باسم الخارجية الأمريكية واضحاً في قوله: «ليس لدى الولايات المتحدة أي نوايا لهندسة تغيير نظام الأسد» في استئناف للسياسة الأمريكية تجاه سوريا في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، بل بسقف أكثر انخفاضاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن كلاً من وزارة الدفاع والمخابرات المركزية في عهد أوباما الأول كانت لهما أنشطة تدخلية في الصراع العسكري، لفترة محدودة، سرعان ما توقفت حتى قبل تلزيم الصراع السوري لروسيا بدءًا من خريف العام 2015.
أما النشاط الظاهر لشخصيات معارضة، في الآونة الأخيرة، وإطلاقها مشاريع وأوهام بقرب نهاية النظام، فتلتقي فيه طموحات شخصية لدى معارضين يريدون لعب دور سياسي، ودول إقليمية تتنافس على مناطق وميادين نفوذ جديدة لتثبت أهميتها وقوتها في المعادلات الإقليمية والدولية. ينطبق الأمر ذاته على الفصائل العسكرية المعارضة أيضاً، ويمكن قراءة الفيلم الوثائقي الذي صوره صحافي أمريكي مع أبي محمد الجولاني، وتسربت بعض عناوينه إلى وسائل الإعلام، في الإطار نفسه، حيث يسعى الجولاني إلى تسويق منظمته لدى الرأي العام الغربي.
سأقترح هنا قراءة أخرى، متشائمة، للتطورات المذكورة، وأتمنى أن أكون مخطئاً فيها.
حين تظهر الولايات المتحدة والدول الأوروبية «تشدداً» بلاغياً في وجه النظام الكيماوي، وتربط بين رفع العقوبات والمساهمة في إعادة الإعمار، بإحراز تقدم في تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، فهي تعرف أن النظام لن يرضخ لذلك. ولمَ يرضخ ما دامت سلطته غير مهددة بصورة جدية، حتى لو كانت هذه على جزء من الأراضي السورية فقط، وملايين السوريين الواقعين تحت قبضته، المهددين بالجوع، لن يشكلوا خطراً عليه. فهو مستعد للتعايش مع الاحتلالات الأجنبية، والأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتفكك المجتمع، سنوات وسنوات.
بهذا التمسك بالسلطة، مهما كان الثمن، يخدم النظام الكيماوي أيضاً دول الغرب، فيقدم لها الذريعة المناسبة للتنصل من واجباتها. كيف ذلك؟
لنفترض جدلاً أن النظام رضخ للضغوط فوافق على تنفيذ متطلبات الحل السياسي وفقاً لقرارات مجلس الأمن، أو اختصر رأس النظام الأمر على نفسه وتنحى بقرار ذاتي وخرج من سوريا. فما الذي سيحدث في اليوم التالي؟
سيكون على مجلس الأمن أن يتولى أمر إعادة الاستقرار إلى سوريا ما بعد الأسد، وهو ما يتطلب إطلاق ورشة عمل هائلة ومتعددة الوظائف، بموارد فلكية، لإرساء أسس نظام جديد قابل للحياة، وإنهاء الاحتلالات الأجنبية، ونزع سلاح التشكيلات المسلحة لدى جميع الأطراف، وإعادة بناء جيش وقوى أمنية من الصفر، وفرض النظام العام، والبدء بإعادة الإعمار تمهيداً لعودة ملايين المهجرين واللاجئين والنازحين، والمساعدة على إعادة تدوير الاقتصاد بما في ذلك إيجاد ملايين الوظائف.
ما لم يحدث ذلك فالصراعات المسلحة يحتمل جداً أن تستمر بين مختلف المناطق بعد رحيل رأس النظام وحاشيته المقربة، ولن يكون باستطاعة «هيئة الحكم الانتقالية» المذكورة في قرار مجلس الأمن أن تضبط النظام العام بدون أدوات أمنية وعسكرية يتطلب إعادة بنائها الكثير من الموارد البشرية والمادية، ناهيكم عن إعادة عجلة الاقتصاد والتجارة والخدمات العامة للدوران.
لقد رأينا في مؤتمر المانحين الأخير غياب الحماسة لدى الدول المشاركة لتقديم مساعدات إنسانية، فكان المؤتمر نوعاً من بروفا مصغرة لما يمكن أن يقدمه المجتمع الدولي لسوريا، على فرض انتهاء الحقبة الأسدية وبداية سوريا جديدة. قد يكون السيناريو الأكثر واقعية هو أن يتم تعزيز القوات الروسية في سوريا بحيث يصبح بإمكانها ضبط الأمن بوصف روسيا الدولة الوصية أو «المنتدبة» على تركة النظام الأسدي. ولكن ليس لدى المحتل الروسي ما يقدمه في المجالات الأخرى. وهذا ما يعيدنا إلى المربع الأول، أي حاجة المحتل الروسي إلى أموال أوروبية وأمريكية وخليجية، سواء لتمويل إعادة الإعمار أو لدفع كلفة الاحتلال نفسه. ولا مصلحة للدول المذكورة في إغداق الأموال على روسيا بلا مقابل، وتسليمها الدولة السورية فوق ذلك، في الوقت الذي تقول مؤشرات عدة أن حرباً باردة جديدة على وشك أن تبدأ بين روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى.
يكثر السوريون المعارضون من تذكير المجتمع الدولي بالكلفة الهائلة لبقاء الأسد، لكن المجتمع الدولي يفكر بالكلفة الهائلة للتخلص منه.
المصدر: القدس العربي