يعكس المشهد في شوارع العاصمة السورية هذه الأيام، مدى الفقر الكبير الذي وصلت إليه أغلبية الأهالي، والاستغلال الفاضح الذي يتعرضون له، وتراجع هيبة الحكومة، ودخول شوارع دمشق في فوضى. وبعد تضخم طوابير السيارات في الطرقات للحصول على البنزين من محطات الوقود في دمشق و«أخواتها» من المدن الخاضعة لسيطرة الحكومة، أصدرت الحكومة آلية جديدة للتعبئة، أنهت بها مشهد الطوابير، من دون حصول أغلبية المواطنين على المادة.
وعلى طريق عامة في حي شرق دمشق، كانت امرأة خمسينية متردية عباءة سوداء رثة مليئة بشقوق جرى ترميمها، تسير بخطى بطيئة، وبيديها كيسان أسودان لا تقدر على حملهما؛ إذ كانت تسير بهما لمسافة بين 40 و50 متراً، ومن ثم تتوقف وتجلس على الرصيف لترتاح قليلاً، وتعود بعد ذلك لحملهما ومتابعة الطريق قاصدة سوقاً شعبية على بعد ما بين 200 و300 متر.
ومع وصولها إلى بداية السوق، توقفت المرأة أمام أول بسطة لبيع وشراء مواد «السلال الغذائية» (سكر، وعدس، وبرغل، وزيت نباتي…)، وصمتت لدقائق، وبعد أن التقطت أنفاسها، عرضت بحياء على صاحب البسطة أن يشتري منها ما بحوزتها من عدس. لكنها غضبت عندما قال لها إن «الكيلو بألف» ليرة، وقالت موجهة كلامها له: «خاف الله. انتو عم تبيعوا الكيلو بألفين. نحن بدنا نشتري خبز، وانتو بدكون تريشوا (تجمعوا ثروات)».
لم تجد المرأة من خيار، بعد أن عرضت الـ10 كيلوغرامات من العدس على أكثر من صاحب بسطة، إلا بيعها لأحدهم بسعر ألف ليرة للكيلوغرام الواحد، لأن أغلبية الباعة يصرون على الشراء بالسعر نفسه، لكنها وبعد أن قبضت ثمنها، قالت بصوت عالٍ وهي أمام البسطة وحولها عدد من الزبائن: «التجار الكبار علينا، والحكومة علينا، وانتو المحسوبين منا كمان (أيضاً) علينا… أشكيكم لله».
خط الفقر
ويعيش نحو 90 في المائة من المقيمين داخل مناطق سيطرة الحكومة تحت خط الفقر، في وقت تزداد فيه مشكلة الجوع يوماً بعد آخر، مع تواصل فقدان مداخيل العائلات الشهرية جزءاً كبيراً من قيمتها، بسبب الانهيار القياسي التاريخي لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي، حيث سجل في اليومين الماضيين نحو 3500، بعدما كان نحو 50 ليرة قبل عام 2011، وباتت غالبية المواطنين في مناطق سيطرة الحكومة تعيش أوضاعاً معيشية مزرية للغاية بسبب الارتفاع الجنوني للأسعار، خصوصاً المواد الغذائية، حيث ارتفعت 33 مرة، بينما لا يتعدى متوسط الراتب الشهري لموظفي القطاع العام 20 دولاراً، ولموظفي القطاع الخاص 50 دولاراً، بعدما كان راتب الموظف الحكومي قبل سنوات الحرب نحو 600 دولار.
التفاف
وبعد انحسار عدد السيارات المارة في شوارع دمشق بسبب نقص حاد في مادتي البنزين والمازوت، وتضخم طول طوابير السيارات المصطفة على جوانب الطرقات بانتظار الوصول إلى محطات الوقود للحصول على المادتين، وتجاوزها الأحياء التي توجد فيها المحطات وامتدادها كيلومترات عدة وصولاً إلى أحياء أخرى مجاورة، أصدرت وزارة النفط والثروة المعدنية، الاثنين، قراراً أعلنت فيه «بدء تطبيق الآلية الجديدة لتوزيع مادة البنزين وفق نظام الرسائل النصية القصيرة» بدءاً من يوم أمس الثلاثاء، وذكرت أن الآلية الجديدة تعتمد على إرسال رسالة نصية قصيرة لهواتف المواطنين الجوالة تتضمن تفاصيل المحطة التي يتوجب التوجه إليها مع مدة صلاحية الرسالة، البالغة 24 ساعة.
و«لضمان تسلم الرسالة النصية الخاصة بتعبئة مادة البنزين» طلبت الوزارة من المواطنين «ضرورة تأكيد رقم (الموبايل) الخاص ببطاقة الآليات (الذكية) عبر المنصات الإلكترونية (تطبيق وين – قناة تلغرام – موقع مركز الخدمة الذاتية – خدمة USSD)».
ومنذ الإعلان عن «الآلية الجديدة» لتوزيع البنزين، يحاول المواطنون تأكيد رقم هاتفهم الجوال الخاص ببطاقتهم «الذكية»، لكن تطبيق «وين» الذي يعتمد عليه أغلبيتهم لا يعمل، ويقول لـ«الشرق الأوسط» أحدهم: «حاولت مئات المرات وطلعت روحي وما فتح (وين)، وكل من نسأله من الأقارب والمعارف يحصل معهم ما حصل معي، أنا بس بدي (أريد) أعرف من وصلت إليه رسالة؟».
ومنذ ساعات الصباح الباكر وحتى فترة ما بعد الظهر، اختفت طوابير السيارات من الشوارع؛ إذ اقتصر عدد السيارات المصطفة عند بعض محطات التعبئة على ما بين 10 سيارات و15 سيارة.
خبير اقتصادي يعدّ لـ«الشرق الأوسط» أن «المشكلة الرئيسية ليست في (آلية التوزيع)؛ المشكلة أن الحكومة لا يوجد لديها وقود، ومشهد الطوابير بات محرجاً جداً لها، وبالقرار الجديد أنهت تلك الطوابير، وأصحاب السيارات عليهم انتظار رسائل الفرج، كما هي حال الغاز ومازوت التدفئة، اللذان انتهى فصل الشتاء ولم تصل رسائلهما» لأغلبية المواطنين.
وعلى مدار الأشهر الثلاثة الماضية التي شهدت أزمة حادة في نقص البنزين والمازوت وسبقت «آلية التوزيع» الجديدة للبنزين، كان هناك مشهد الطوابير الطويلة للسيارات المصطفة للوصول إلى المحطات، ويوجد إلى جانبها طوابير أخرى أصغر منها بكثير تمتد لعشرات الأمتار، وتسير بشكل أسرع من الأول ومعظم المصطفين فيها من «النافذين».
تنظيم الطوابير
وفي حين يقوم قائمون على المحطات ومسؤولون عن تنظيم الدور (عناصر أمن وميليشيات) بالتعامل مع أصحاب السيارات المصطفة في الطوابير الطويلة بأسلوب يخلو من اللباقة، يتعاملون باحترام مع المصطفين في الطوابير القصيرة، وفي كثير من الأحيان يقومون بتجاوز الدور الأخير عندما تأتي شخصية نافذة جداً؛ إذ يدخلون سيارتها من فتحات جانبية ويقومون بتعبئتها وأحياناً بكميات تتجاوز كثيراً المسموح به (20 لتر بنزين كل 7 أيام للسيارة الخاصة).
أصحاب السيارات المصطفة في الطوابير الطويلة كانوا ينظرون بتحسر إلى ما يجري في الطوابير القصيرة، وهم ينتظرون لساعات وربما ليوم كامل ليأتي دورهم، لكن قلة منهم كانت تبادر إلى الاعتراض «فكلنا مواطنون»؛ على حد قول أحدهم عندما كان ينتظر عند إحدى المحطات في غرب العاصمة الاثنين الماضي، بينما احتدت الردود عليه من قبل قائمين على المحطة ومنظمي الدور ومصطفين في الدور القصير؛ إذ قال أحدهم بعد أن عبأ سيارته بأكثر من 50 لتر بنزين: «روح اشتكي. روح بلط البحر».
ويتحدث بعض الأهالي عن إصابة عدد من الأشخاص بجلطات قلبية أثناء انتظارهم لساعات طويلة أمام المحطات، وتقول سيدة لـ«الشرق الأوسط» إن زوجها منذ يومين خرج فجراً للحصول على البنزين وعاد مساء من دون الحصول عليه، وتضيف: «عاد مقهوراً لا يقوى على الوقوف، ووجهه شاحب، وبعد ساعات تألمَ وأسعفناه إلى طبيب في الحي أكد ضرورة إسعافه بسرعة إلى المشفى؛ لأن الأعراض تدل على أنه أصيب بجلطة قلبية، وهو ما أكده أطباء المشفى».
ما يجري عند محطات الوقود، ينسحب أيضاً على الأفران، التي تتواصل ظاهرة الازدحام عليها منذ أشهر بسبب نقص حاد في القمح، فأمام أحد الأفران في شمال دمشق، يصطف المئات في انتظار دورهم للحصول على مخصصاتهم اليومية من الخبز بالسعر المدعوم (100 ليرة للربطة المؤلفة من 7 أرغفة) وسط حالات تدافع كبيرة.
كثير من المصطفين في الطوابير الثلاثة (مدني – نساء – عسكري) تعلو أصواتهم لدى مشاهدتهم أشخاصاً يدخلون من جانب الكوات الثلاث لمرات متتالية ويحصلون في كل مرة على كمية ربما تكفي لخمسة أشخاص ممن ينتظرون في الدور، ومن ثم يبيعونها على الرصيف بمبلغ ألف ليرة للربطة.
ويقول لـ«الشرق الأوسط» شاب كان بين المصطفين: «يأخذون الخبز ويبيعونه أمام أعين الأمن والشرطة، ورغم صراخ (اعتراض) الناس، فإنه لا أحد يكترث»، ويضيف: «هؤلاء كلهم شركاء. نحن نعيش في غابة. بالاسم عنّا (عندنا) حكومة. عنّا عصابات». ويتابع: «نعم غابة وعصابات. شوف الوضع بالأسواق… كل بياع بسعّر على كيفه».
ويعيش أغلبية المواطنين في مناطق سيطرة الحكومة حالياً أوضاعاً معيشية هي الأسوأ في تاريخ البلاد، بسبب تراكم وتضخم الأزمات المعيشية والغلاء، وعدم توفر أبسط مقومات الحياة من خبز ووسائل نقل ووقود وكهرباء، وازدياد انتشار وباء «كوفيد19»، بينما تبدو دمشق شبه مشلولة، وكئيبة وحزينة، ويقول أحدهم لـ«الشرق الأوسط» وهو في وسط العاصمة مع حشود تنتظر وسيلة نقل: «الشام تبكي… وسكانها في الطرقات… دموع عزيزة سالت على وجهها».
إلى ذلك، قالت مصادر في السويداء إن أعدادا من الأهالي تجمعوا في محيط محطة وقود شمال المدينة التي خصصت للتوزيع وفق النظام الجديد واحتجوا على القرار وطالبوا بالعودة عنه وتوزيع البنزين كالمعتاد أو إغلاق المحطة.
وتطورت الاحتجاجات وسط سماع أصوات رصاص بالهواء لفض التجمع، كما توجه مجموعة من الأهالي وعناصر من الفصائل المحلية المسلحة إلى مقر «شركة تكامل» المسؤولة عن إصدار البطاقة الذكية التي بموجبها يتم إرسال التبليغات النصية. ونفذوا احتجاجا أمام الشركة التي أخلت مقرها من الموظفين في أجواء من التوتر والغضب الشديد، وبث موقع «السويداء 24» صورا للاحتجاجات محملا الحكومة بدمشق المسؤولية عما يجري. وقال: «عجز الحكومة عن إيجاد حلول للأوضاع المعيشية والاقتصادية الخانقة، والتفافها على الأوضاع بحلول تزيد التضييق على المواطن، أدى لاحتقان كبير في المحافظة والبلاد عموماً»
وردت مصادر أهلية في السويداء سبب الاحتجاجات إلى «وجود أعداد كبيرة من السيارات في السويداء بطاقاتها الذكية غير مفعلة وكي تتفعل تحتاج لمعاملة مصرفية وإيداع خمسة ملايين ليرة في المصرف، وهو أمر منهك بل غير ممكن في ظل أوضاع معيشية قاسية إذ أن غالبية الناس تعاني في تدبر أمور معيشتها فكل شيء يحصلون عليه يسددون ثمنه بالتقسيط والديون هدت كاهلهم». وتوقعت المصادر مزيدا من الغضب والانفلات الأمني إذا استمرت الأوضاع على هذا النحو.
إلى ذلك، أفادت مصادر أن قرارا صدر بإعطاء مهلة للشباب في درعا المجاورة للسويداء، قبل الالتحاق بالجيش لأداء الخدمة العسكرية.
المصدر: الشرق الأوسط