تشكّل المعارضة الداخلية للنظام السوري نقطة قوة وضعف في آن، فهي تمنح النظام القمعي صك براءة بوجه من يصفه بالاستبدادي والديكتاتوري. ومن جهة مقابلة، تشوّه الصورة النمطية للحاكم المنزّه الذي تهتف رعيته لحياته وأبديتها، وحيث يغلب على الأنظمة الأمنية الرغبة بالبقاء في حيز التفرّد وبسط السيطرة الكاملة على محيطها، فإن سلبيات ما يعنيه وجود معارضين لها تفوق بكثير حسنات الصورة “الوهمية” الديمقراطية لها، مهما كانت هذه المعارضة هشّة أو سطحية، فكيف مع معارضةٍ وطنيةٍ وراسخةٍ نمت وتطورت، على الرغم من إرادته وفي أقبية سجونه، وأصبحت أذرعها طويلةً، بما يكفي لتزيح من بياناتها جمل المواربة والدبلوماسية، وتتحضّر لمواجهةٍ معه، تطلب فيها نزع شرعيته، وإحلال نظام آخر مكانه يحقق طموحاته الوطنية.
ومن ذلك، لم يكن غريبا ولا مفاجئا البتّة منع النظام السوري انعقاد المؤتمر التأسيسي لتشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود)، الذي كان من المفترض عقده في دمشق صباح يوم أول من أمس (27/3)، حيث إن مقدمات المؤتمر لا تقدّم للنظام أيا من المعيارين السابقين: .. هي لا تمنحه المشهد الديمقراطي “الوهمي” الذي يحتاجه لتسويق نفسه دولياً، ونزع المبادرة من المعارضة الخارجية تحت غطاء الجو الديمقراطي للنظام المقبل على انتخابات رئاسية على بحر من دم السوريين. لسبب بسيط هو أن هذا النظام يحتكر السياسة، والمجال العام، ويمنع المشاركة السياسية منذ أكثر من نصف قرن. لكن الغريب والمفاجئ اعتقاد أية حركة سياسية سورية، تعمل خارج إطاره، أو في معارضته، بأنها في منجاة من ذلك. الأمر الآخر، السماح من تلك الأجهزة الأمنية بتمرير مؤتمر ببيان يحطّ من قدر شرعية النظام كوجود قائم، أو في مرحلة الانتخابات المقبلة، ووسمها علنا بين مؤيديه، وفي عقر داره بأنها “غير شرعية”، يعني أن النظام ينتحر علناً، وهو ما لم يقرّره خلال عشر سنوات من الحرب التي شنها على شعبه، دفاعاً عن وجوده واستمراره على كرسي الحكم بالصفة الأبدية.
على أية حال، يُحسب للأطراف التي كانت تعتزم المشاركة في ذلك المؤتمر، وفي مقدمتها هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، تجرؤها، أو اعتزامها عقده في دمشق، الأمر الذي يعد نوعا من تحدٍّ للنظام، واختبارا له أمام الرأي العام، داخليا وخارجيا. فوق ذلك، يُحسب لها خطابها السياسي الذي كشف عن الملامح السياسية للمؤتمر المفترض، إن صح ما تسّرب عن بيانه الختامي المفترض، والمتضمن: “تغيير النظام الحاكم المستبد، بشكل جذري، بكل مرتكزاته ورموزه”. إخراج كل القوى والجيوش والمليشيات الأجنبية من سورية، وسحب سلاح الأخرى، في مسعى إلى وقف الاحتراب والأعمال العسكرية داخل سورية من أي كان. البدء بحل سياسي حسب قرارات الشرعية الدولية، بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254، بتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، تفضي إلى جو ديمقراطي يتيح كتابة دستور جديد للبلاد، وانتخابات نزيهة تحت إشراف أممي تحيل إلى دولة مدنية. اعتبار الانتخابات الرئاسية التي يزمع النظام إجراءها (في يونيو/ حزيران المقبل) غير شرعية، وعلى السوريين عامة مقاطعتها. تأكيد أن “ما قام به نظام القمع في دمشق ضد القوى المشاركة بتشكيل “جود”، وهي قوى سلمية مدنية، تمثل حراك الشارع السوري بكافة أطيافه، والأحزاب والتيارات الوطنية الديمقراطية السورية، والشخصيات الوطنية المشهود بوطنيتها ونضالها، والتي عانى الكثير منها التضييق والترهيب والملاحقة والاعتقال، ليس إلا حلقة في سلسلة قمع النظام واستبداده وشموليته، نظام الفساد والانتهاكات والقتل والتهجير وتدمير البلاد”.
ومن خلال ذلك، تأتي الحيرة مع هذه المعارضة الغائبة والمغيبة، والتي تسمّى معارضة الداخل ببيانها الذي انتشر أنه تميّز بخطاب متماسك، ويمكن اعتباره الأكثر مقاربة للأزمة السورية، ولطرق حلها، إلا إنها على الرغم من ذلك كله، ولأسباب ذاتية (تتعلق بطبيعة بعض مكوناتها)، ولأسباب ربما موضوعية، ظهرت وكأنها على هامش المعارضة، حين اندماجها في العمل مع كيانات المعارضة الخارجية، وعلى الأخص المدعومة من أنظمة غير ديمقراطية، أو كأنها اختارت أن تكون في منزلةٍ وسط، فلا هي محسوبة على المعارضة بخطابها “العسكري وأجنداتها الإقليمية”، ولا هي محسوبة على النظام القمعي، ولا هي تستطيع تجنب احتسابها على أيٍّ من الطرفين. وفوق ذلك كله، هي لا تحظى بمكانة مناسبة على الصعيد الشعبي (المحسوب على الثورة)، وليس على المعارضة التقليدية، تبعا لدورها الهادئ في المعارضة، أو المتأقلم مع ظروف قمع النظام. ومفهوم طبعا أن ذلك يعود إلى أسباب تاريخية، ولأسباب تتعلق بحرمان السوريين من حقهم في المشاركة، وحق تشكيل الأحزاب، والحق في التعبير عن الرأي والاجتماع.
في المقابل، ثمّة حيرة أخرى من المعارضة المتصدّرة، أو الحاضرة، أي تلك التي احتلت مشهد المعارضة السورية، طوال السنوات الماضية، والتي أضحت مختزلة في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، فهذه لم تخفق فقط في أنها معارضة للنظام، مع معرفتنا بانحسار دورها ومكانتها في الصراع ضد النظام، فهي أخفقت، أساسا، في مكانتها، بوصفها معارضة، إزاء السوريين، إذ لا أحد ينظر إليها على هذا النحو لأسباب عديدة:
أولا، تلك المعارضة (الائتلاف) لم تستطع أن تحوّل ذاتها إلى كيان وطني جامع للسوريين، فهي حكر على مجموعة أشخاص تتداول على هيئاتها وتفريعاتها، “رغم مسرحيات التوسعة وتوزيع الهبات” التي تعمّق الشرخ مع السوريين، بديلا عن إيجاد الحلول بطرق مقبولة شعبياً، وقد أخذت دور السلطة عندما ارتفعت أصوات سوريي الداخل بمواجهتها، ورمت معارضيها بالصفات نفسها التي أسبغها النظام على معارضته من مندسّين إلى مأجورين أو غوغائيين، وغير ذلك.
ثانيا، باتت هذه المعارضة فاقدة للمصداقية، فهي أضحت وكأنها امتداد للسياسة التركية في الصراع السوري، أكثر بكثير من كونها ممثلة لمصالح السوريين. وهكذا، ففي كل المواقف والمنعطفات، كان “الائتلاف” يعطي الصورة أنه يتمثل مصالح تركيا وتوجهاتها، أكثر مما يتمثل مصالح الشعب السوري، وسلامة مسار ثورته.
ثالثا، حتى على صعيد الخطاب السياسي، ومنذ انخراطه في مسار أستانة، وغيره، بات “الائتلاف” من دون خطاب سياسي متماسك، أو واضح، وهو مجرّد دعاية إعلامية لما تريده تركيا من هذا المسار.
بناء عليه، بات السوريون في حيرة من أمرهم، في المفاضلة بين ما تُعرف بالمعارضة الداخلية والمعارضة الخارجية، ما يفيد بوجود فراغ هائل في المعارضة، وتالياً في السياسة السورية، وهو الأمر الذي يفترض تداركه، إذا كان ثمّة قوى حية ما زالت تعمل، مخلصة لصالح الشعب السوري، وضمن أجندة الثورة الوطنية ما قبل عسكرتها وتدويلها وتنوع أجنداتها.
المصدر: العربي الجديد