تعدّ الشعارات عناصر أساسية في الحياة السياسية، خصوصًا في زمن الثورات والتحولات الاجتماعية الكبرى، حيث تُصاغ بهدف التعبير عن الواقع والتوجهات والآمال، فضلًا عن كونها إحدى أدوات التحشيد في الحملات الانتخابية في البلدان الديمقراطية، وكثيرًا ما أدّت الشعارات السياسية دور المُلهم للتغيير السياسي. وهناك شعارات سياسية عرفها العالم، وأثرت كثيرًا في حياة البشر والشعوب، منها مثلًا شعار الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي “المساواة، الحرية، الإخاء” الذي استُلهم من أفكار جان جاك روسو وفولتير وغيرهم، وشعار “كل السلطة للسوفييت: الخبز والسلام والأرض” الذي أطلقه لينين في عام 1917، وشعار “بلد يليق بحياة الأبطال” الذي أطلقه ديفيد لويد جورج في عام 1918، وشعار “نعم نستطيع” الذي رفعه باراك أوباما، المرشح الرئاسي الأميركي، في 2008.
مع القفزة الكبيرة في دور وسائل التواصل الاجتماعي في حياة المجتمعات، لعبت الشعارات التي بثّها الناشطون على فيس بوك وتويتر وغيرها، دورًا كبيرًا في التعبير عن الرؤية والأهداف، وفي التحريض والتحشيد، وفي خلق وبناء الوعي العام، ما سمح بخروج عملية تصنيع الشعارات من دائرة احتكار السياسيين، ولم يعد هناك جهة واحدة تحتكر لنفسها حق التمثيل داخل المجال العام. كذلك أُنجزت معظم الأعمال التنظيميّة في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن قدمت هذه الوسائل فضاءً تواصليًّا واسعًا أتاح الوصول إلى شرائح وقطاعات واسعة من البشر.
على الرغم من إيجابيات هذا الفعل إلا أننا ندرك أيضًا جوانبه السلبية: استسهال إطلاق الشعارات، تعدّد الشعارات في لحظة تتطلب التركيز على شعارات توحيدية، فوضى إعلامية، دخول الأيديولوجيات المتصارعة على خط الشعارات، دخول الأنماط الثقافية التقليدية الغرائزية على خط صناعة الشعارات وترويجها؛ العرقية والدينية والطائفية. فقد شعر الشباب في البدايات بنشوة في مواجهة الكبار، وأعطتهم شعاراتهم شيئًا من الثقة بقدرتهم على القفز وإدارة الظهر للفكر والسياسة، لكنها كانت نشوة مؤقتة وعابرة، ليعودوا إلى الارتطام بالواقع بحكم تعدّد مستخدمي وسائل التواصل وتنوع الخطابات، وليكتشفوا أهمية إعادة بناء وعيهم من جديد، وأن فضيلتهم على الكبار لا تزيد على وجود وسائل التواصل الاجتماعي في عهدهم، وهو وجود لا فضل لهم فيه. أما القوى التقليدية التي ظهرت ضعيفة في أوائل الربيع العربي، فقد عادت واستوعبت صدمة التكنولوجيا، وعملت على إعادة إنتاج نفسها، لكن وفق النمط والخطاب القديمين، فاستحضرت شعاراتها الماضية وأعادت إطلاقها، ووجدت لها حصة كبيرة في الفضاء الاجتماعي العام، وكانت من حيث خلفياتها الثقافية تتحرك على الأرضية الثقافية نفسها التي تنطلق منها الأنظمة الاستبدادية.
خلال السنوات العشر الماضية، تغيّرت الشعارات مع تغيرات الواقع، لكن بعضها ظل محافظًا على وجوده، لأن وعي أصحابها قد تخثر في لحظة معينة أو لأن عقلها لا يستطيع أن ينتج إلا شعارات من نوع واحد. أما الشعارات الأيديولوجية في زمن الثورات الشعبية؛ الإسلامية والقومية والطائفية والعلمانية، فقد كانت شعارات مدمرة، غير وطنية في العمق، ولم تخلق إلا الكراهية والتباعد، وأثارت الرعب تجاه المستقبل، فضلًا عن أن كثرة الأعلام والشعارات في زمن الثورات تسبِّب النفور، ولا تجذب أحدًا، ولا تخلق الطمأنينة في الأنفس، بل تثير الرعب تجاه ما هو آتٍ.
هناك أهمية كبيرة في حياتنا للكلمات والمفاهيم والشعارات، كونها تساهم فعلًا في صناعة الواقع والوعي العام، تمامًا مثلما يساهم الواقع نفسه في تكوين وعينا. فالشعار يُصوِّر الفكرة التي يُراد إيصالها بأقصى درجة من الفاعلية والوضوح والتكثيف، ويؤدي دور الدليل والمحرّض، في لحظة زمنية معينة، ومن هنا يكون للشعار بيئته الخاصة التي يكون فيها فاعلًا.
لعل أهم سمة مطلوبة في الشعارات، في زمن الثورات والتحولات، هي العمومية، أي الوطنية؛ الشعارات التي تعبر عن، وتلامس وجدان، أوسع شريحة ممكنة من الشعب. لذا من المهم دائمًا البحث عن شعارات جامعة على الرغم من اختلاف مواقفنا السياسية وانتماءاتنا في لحظة معينة. وفي الحقيقة، في بدايات الثورة السورية أنتج الشباب شعارات مهمة، وقدمت مدينة كفرنبل مثلًا، وغيرها من المدن السورية، حالة متقدمة من الشعارات والتعابير السياسية الذكية والمتسقة مع روح ثورة وطنية لجميع السوريين.
لقد اختلفت البنية السياسية واللغوية للشعارات السياسية في الثورة السورية طوال عقد من الزمن؛ بدأت بشعارات تنادي بالوطنية والحرية والكرامة لكل السوريين، ثم تحولت إلى شعارات تعبّر عن توجهات ومصالح أيديولوجية مختلفة؛ قومية ودينية وطائفية، وارتبطت بمحاور إقليمية ودولية متصارعة. في السنة الأولى للثورة السورية، تفوقت الثورة على النظام السوري في توجهاتها وشعاراتها المرفوعة، ففي مواجهة الشعار العدمي “الأسد أو نحرق البلد” قدمت الثورة شعارات وطنية وتقدمية، لكن في ما بعد جرّها النظام من جهة، وبعض “النخب الثورية والسياسية” من جهة أخرى إلى العودة إلى أرضية النظام ذاتها، لتُنتج شعارات عدمية هي الأخرى أيضًا، تتحرك في فلك الفضاء الثقافي للاستبداد نفسه.
من المهم أن تخرج الثورات من إطار تصنيم شعاراتها، وأن تأخذ في الحسبان تغيرات الواقع ووجدان أكثرية البشر مع تغير الزمن. لا أدري إلى أي حدٍّ مثلًا يمكن أن يكون شعار “الثورة مستمرة” متطابقًا اليوم مع الحالة الروحية والوجدانية لأكثرية السوريين، خصوصًا بعد تشظي منابر الثورة وتعقّد الواقع المحيط بها، وهو شعار يُخفي كثيرًا من الخوف وعدم الثقة أكثر كثيرًا مما يوحي بالإصرار. لا يمكن أن تستمر الثورة بالشعارات نفسها، لكن يمكن أن تستمر بطرق وشعارات أخرى، وبتجديد خطابها ونقد نفسها.
من المؤكد أن شعار “يلعن روحك أنيسة”، وشعارات أخرى على شاكلته، لا يجمع ولا يوحِّد، ولا يصلح أن يكون شعارًا سياسيًا مستقبليًا، وهو يستند إلى الأرضية الثقافية ذاتها للنظام، وإلى الثقافة التقليدية الموروثة التي تعتبر شتم الأرواح أعلى شتيمة. لا شك في أن الشتائم جزء من الحياة السياسية، لكن الحياة السياسية يفترض ألا تبنى كلها على الشتائم. لا نريد إنكار أهمية “قلة الأدب” في التعبير عن حالة سياسية، لكن يفترض ألا نبقى في ساحة “قلة الأدب”. بعد عشر سنوات ما زلنا متوقفين عند هذا النمط من الشعارات والتعابير التي لا تقدِّم شيئًا ولا تفيد في شيء، ما يجعلنا نقول بصراحة إن الوعي الجمعي لنا عمومًا هو ما دون السياسة، وهو متوقف في حيز الشتائم أو في استلهام دور “الزغرتية” و”الأبضايات” وزعماء الحارات، والأنكى أن “قيادات ثورية وسياسية” اندمجت في هذا النوع من الخطاب، وغرقت فيه.
كانت أسماء الفصائل العسكرية، بطريقة أو أخرى، شعارات أيديولوجية، يستحيل أن تكون شعارات ملائمة لأكثرية السوريين، وكانت الشعارات هذه كمن يعمل ضدّ نفسه أو كمن يقول للداخل والخارج “لست معنيًا بكم”، “لا أنا منكم ولا أنتم مني”، “خافوا مني ولا تأمنوا جانبي”، “غدًا سأبني دولة تعبِّر عني فحسب”. أليست هذه هي المعاني الضمنية لشعارات الفصائل. كان مهمًا أن تعلن الثورة بوضوح عدم مسؤوليتها عن الشعارات هذه، بل وأن تقف ضدها.
تغلب أيضًا لدينا الشعارات التي تمجِّد الموت على حساب تلك التي تدعو إلى الحياة، وتحضر بكثافة المفاهيم والشعارات التي تُضفي علينا مسحة ثابتة من الكآبة وكراهية الآخر، وقد كان لعنف النظام الذي خرج عن كل تصور دورٌ رئيس في هذا، لكن في المقابل لا يمكن استبعاد الدور الذي تؤديه ثقافتنا التقليدية على هذا الصعيد، وإلا كيف نفسِّر سهولة استحضار تعابير “الدعس” و”الفطس”. على الرغم من تفهمنا لشعار “الموت ولا المذلة”، إلا أنه يبقى شكلًا من أشكال الدفاع السلبي ضدّ الذل. بينما تتجلى المقاومة الإيجابية ضدّ الذل في الإصرار على الحياة بكرامة. ينبغي للموت في سبيل قضية ما أن يكون فعلًا آخر الخيارات، وأن يكون خيار الحياة بكرامة أولها.
نحن اليوم من دون برنامج للحياة، لا الثورة السورية تمتلك برنامجًا سياسيًا اقتصاديًا، ولا النظام السوري بالطبع. أصلًا لو كان هذا الأخير يملك برنامجًا غير شعاراته العدمية المعروفة لما وصلنا إلى الحال هذه من التشظي وفقدان الأمل. يستهزئ بعضنا بالشعارات التي تعبر عن لقمة العيش اليوم، ويراها أقل من المطلوب. في المآل كل الشعارات سياسية، حتى الشعارات التي لها علاقة بالترويج لمنتج شركة ما هي شعارات سياسية تعبِّر عن الميل العام أو تحاول تصنيع ميل عام.
نحتاج اليوم إلى سياسة وطنية سورية، راقية، رزينة، صبورة، مفكِّرة، تعرف كيف تبني تكتيكات صائبة تنسجم مع استراتيجيات وطنية عامة. نحتاج فعلًا إلى إبداع على مستوى إنتاج الشعارات، شعارات تعبر عن آمالنا الإنسانية والوطنية، وعن إصرارنا على الحياة بحرية وكرامة.
المصدر: المدن