تكثر المقولات السوداوية بخصوص الثورة وما آلت إليه، تلك العبارات التي يكررها الكثير من السوريين، خاصةً في حالات الغضب أو التبرم، ولكثرة التكرار وسهولة التقليد، فإن تلك العبارات التي تطلق على عواهنها في كثير من الحالات عن الهزيمة التي منيت بها ثورتنا، يتم تردادها دون التوقف لحظةً لفحص مدى صوابيتها وموضوعيتها، إلى أن تغدو في ضمير البعض أشبه بالمسلمات التي لا تحتاج لكثرة تمحيص، فتزيدهم انكساراً إلى انكسارهم.
ومعلوم بالبداهة أنَّ الشعب السوري بمجمله، شعبٌ يعاني من سلسلةٍ طويلةٍ من الأزمات والضغوطات المتراكمة تاريخياً، والتي بلغت ذروتها في سنوات الثورة التي دخلت منذ أيام عامها العاشر، هذه الأزمات المتلاحقة التي تنسكب على حياته من كل حدبٍ وصوب، جعلت من السوريين بشكلٍ عامٍ شعباً مأزوماً، والمأزوم يطلق العنان لغضبه في اتجاهات شتَّى، وإن لم يجد الاتجاه الصحيح الذي ينبغي أن يصبَّ عليه جام غضبه، انكفأ إلى جلد ذاته طلباً لراحةٍ متوهمةٍ، يلتمسها في وضع يده على موطن العلة ومنبع الألم.
هل هي ثورة أم حرب أهلية، أم أزمة أم شرك ومؤامرة إقليمية ودولية انساق إليها السوريون، ووقعوا في شركها، في البدء كانت الثورة، وكانت الحلم الذي يضارع المحال، وكانت ولادتها العفوية نصراً مكتفياً بذاته، معزولاً عن أي انحرافاتٍ ستأتي لاحقاً، حتى من بعض قادتها المزعومين، وهذه طبيعة الأشياء، فأي قضية يطول عليها الأمد تصبح موطناً لطمع الطامعين، وعبث العابثين وتسيد المتطفلين، هذا إذا أغفلنا الجانب الأكثر أهميةً، وهو الرغبة الدولية الواضحة، بألا يصل مركب هذه الثورة إلى شاطئه الآمن، ففي وصوله تهشيم وشرخ لمنظومةٍ مصاغةٍ بتناسق متين، تحمي المصالح والمشاريع التي لم تعد سراً من الأسرار، فنظرية الفوضى الخلاقة، ومشروع الشرق الأوسط الجديد لا ينسجم مع ولادة كياناتٍ وطنية، في بلدان كانت وما زالت، ومخطط لها أن تبقى كويكبات صغيرة، تدور حول المركزيات الكبرى وترعى مصالحها.
فليسمها الآخرون ما شاءوا، لكنها ثورة وقد أنجزت مهمتها الأولى بنجاح، فثقبت جدار الخوف، وحطمت هيكل الآلهة التي تحكم بالرعب والحديد، وأخرجت الشعب المارد من قمقمه، ولن تعود سوريا ولا الشعب السوري كسابق عهده، منتهك الحقوق، يصفق ببلاهة لجلاديه ويساق أبناؤه للمعتقلات وأقبية التعذيب أنّى شاء جلادهم.
هذه الثورة ليست بدعاً في الثورات، فهي كسابقاتها من الثورات التي غيرت وجه التاريخ، سلسلة من التفاعلات التي لا تتوقف، ولا تنتهي إلا بإنجاز مهمتها الأخيرة وهي تغيير النظام الذي كان علة العلل ورحم الانكسارات الممنهجة.
لقد استمرت الثورة الفرنسية زهاء ثمانين سنة حتى تم لها أن تنجز حلمها بجمهورية كانت مضرب المثل في شتى البقاع، ومدرسة ما تزال حناجر المتشوفين إلى الحرية يتغنون بها، بالرغم من كل التعثرات التي اعترتها، بالرغم من سعي الكثيرين من أبنائها لركوب موجتها، ومحاولاتهم التي لم تتوقف على تطويعها، لتكون منسجمةً مع أهوائهم “تماماً كما يحصل اليوم معنا كسوريين”، وها هي آلاف النفوس الحرة اليوم تتغنى بعيد الثورة العاشر.
لن تخمد هذه الجذوة باجتراح حلول قزمة مثل “مجلس عسكري” أو “لجنة دستورية” أو غيرها، حتى لو رعتها قوى إقليمية وعالمية، فهذا الكيان الجديد الذي سيعاد تأسيسه يفتقر إلى القوة اللازمة للقمع اللازم لإعادة إخضاع البلاد، تلك القوة التي أسسها وطورها نظام متجبر، ظلَّ يعد لمعركته هذه خمسين سنة، ومع هذا شارف على الانهيار لولا الدعم والحماية الروسية والإيرانية، وعشرات الميليشيات والمرتزقة الأغراب.
لقد ولد جيل جديد وترعرع في هذه الثورة، لم نعبأ به ولم نتنبه لخطورة ولادته، هو جيل لم يرضع الذل ولم يستمرئ الخنوع، ولم يعتد على الصمت والمشي بحذاء الجدران، جيلٌ لن يؤمن بحيزٍ أو حقٍ مسكوت عنه، ولن يغرم بحكمة الآباء والأجداد في تحكيم العقل والجنوح للسلم مع من يغتصب مقدراته ومستقبله صباح مساء، جيلٌ متصلٌ بفضاءات عالمية وبشعوب تتمسك بخياراتها وحقوقها وحريتها، ولن يرضى بأدنى من هذا سبيلاً لحياته.
هذا الجيل الذي أخذ من حكمة التاريخ وحركته أنَّ موجات التغيير وإن تباطأت أو تخامدت أو عبثت بها الزوابع لكنها دائما تبقى أمينة لاستمرارها، فلا سبيل لاحتواء الطوفان، ولا سبيل إلى إيقاف هذه الحميَّة والنزق، الذي يفور في أرواحهم، هم مؤمنون بأن الغد لهم وأنهم هم ذلك الغد، الذي طالما حلمنا به إلى أن كلّت الأحلام.
وهاهم يملؤون سمع العالم بضجيجهم في عواصم ومدن شتى، وهذه الثورة صيحتهم وأغنيتهم، وما عداها نشاز لا يؤبه له.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا