لم يتأخر الأكراد السوريون في الالتحاق بركب الثورة التي انطلقت قبل عشر سنوات من اليوم، ووجدوا فيها فرصة سانحة لاسترداد حقوق لهم سُلبت على مدى عقود. لكن اغتيال مشعل تمو، أبرز القياديين السوريين الأكراد، في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، شكّل فصلاً بارزاً بين مرحلتين في تعاطي الأكراد مع الثورة.
وفيما لم تكن العلاقة جيدة بين الأكراد والنظام منذ نشوئه، إذ كانوا يتعرضون للقمع كغيرهم من السوريين، إلا أن نظام بشار الأسد سهّل بعد اغتيال تمو تشكيل “وحدات حماية الشعب” الكردية، بهدف تطويق الحراك الثوري في المناطق الكردية. أما اليوم، وعلى الرغم من سيطرة “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) بشكل شبه كامل على منطقة شرقي الفرات، فإن المشهد السياسي الكردي منقسم إلى أحزاب ومجالس عدة، ما يمنع الأكراد السوريين من تشكيل مرجعية سياسية واحدة تمثلهم في استحقاقات الحل السياسي.
تحوّلات تجاه الثورة
عمّت التظاهرات المدن والبلدات الكردية في الشمال السوري مع انطلاق الثورة في ربيع 2011، بدءاً بمنطقة عفرين في ريف حلب الشمالي الغربي، مروراً بمنطقة عين العرب (كوباني) في ريف حلب الشمال الشرقي، وانتهاء بمحافظة الحسكة، التي تضم العدد الأكبر من الأكراد السوريين في أقصى الشمال الشرقي من سورية. كذلك نشط الأكراد في العاصمة دمشق، وفي مدينة حلب كبرى مدن الشمال السوري، حيث يشكل الأكراد نسبة عالية من سكان أحياء فيها، أبرزها الشيخ مقصود، والذي يضم نازحين أكراداً من عدة مناطق. وليست هناك إحصائيات واضحة عن عدد الأكراد أو النسبة التي يشكلونها بين سكان سورية، لكن المبعوث الأممي السابق إلى سورية ستيفان دي ميستورا كان قال إن نسبة الأكراد 5 في المائة من عدد السكان، بينما ترى هيئات كردية أن النسبة أكبر من ذلك.
لم تكن العلاقة جيدة بين الأكراد والنظام، الذي تشكل عام 1963، إذ كانوا كغيرهم من السوريين يتعرضون للقمع، الذي زادت وتيرته مع استلام حافظ الأسد السلطة في عام 1970، والذي جفف الحياة السياسية في عموم البلاد، وطاول قمعه جميع السوريين. وفي 2004 حاول الأكراد السوريون القيام بما وُصف لاحقاً بـ”انتفاضة الأكراد” على النظام، مدفوعين بما كان يجري في العراق عقب الاحتلال الأميركي. لكن المحاولة سُحقت من قبل النظام، ولم ينل الأكراد جراءها إلا المزيد من الإقصاء والتهميش، وتكلل في عام 2005 باغتيال الشيخ محمد معشوق الخزنوي، الذي علا نجمه في مناهضة سياسة النظام حيال الأكراد.
مع الأشهر الأولى من الثورة، حاول النظام استمالة الأكراد إلى جانبه من خلال عدة إجراءات، أبرزها منح الجنسية السورية لعشرات الآلاف الذين كانوا محرومين منها، ولكن شريحة واسعة من الأكراد اعتبروا الجنسية حقاً من حقوقهم لا يُغني عن حريتهم ومطالبتهم بزوال الاستبداد في عموم سورية. فلم يجد النظام بداً من إرسال رسالة للشارع الكردي المنتفض، فاغتال مشعل تمو الذي كان أحد أبرز وجوه الثورة، وكان يحظى باحترام جميع السوريين. وبعد حادثة الاغتيال، التي كان لها وقع كبير على مجمل المشهد الثوري السوري، سهّل النظام لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي”، الذي يُنظر إليه باعتباره نسخة سورية من حزب “العمال الكردستاني”، تشكيل “وحدات حماية الشعب”، التي تولت إدارة المناطق الكردية بعد تسليحها من قبل النظام نفسه لتطويق الحراك الثوري في تلك المناطق.
وانسحب النظام تدريجياً من الشمال السوري، معتمداً على الوحدات التي لطالما اعتبرها قوة رديفة لقواته. ونشأت علاقة مصلحة مشتركة بين النظام وهذا الحزب، الذي وجد حاجة النظام له فرصة لترسيخ وجوده في المشهد الكردي والتفرّد بالقرار، والحصول على مكاسب سياسية في حال القضاء على الثورة السورية من قبل النظام، الذي اعتمد على “الوحدات” الكردية في الشمال السوري ليركّز جهوده في أماكن أخرى من سورية. ونجح “الاتحاد الديمقراطي” في تحييد الشريحة الأوسع من الأكراد السوريين عن الثورة، التي كانت قد اتجهت إلى العسكرة نتيجة اتّباع النظام حلاً عسكرياً أمنياً، كان الهدف منه جرّ الثورة السورية إلى ميدان يُحسن التعامل معه.
ومع صعود تنظيم “داعش” عام 2014، وهجومه المباغت على منطقة عين العرب، التي تعد من أبرز المناطق الكردية، وجد الأكراد السوريون أنفسهم أمام تحدٍ كبير، فلم يكن أمامهم إلا التحوّل إلى ذراع برية للتحالف الدولي ضد الإرهاب، بعد أن رفضت فصائل المعارضة السورية لعب هذا الدور، بسبب اشتراط التحالف محاربة التنظيم دون النظام. وخاض المقاتلون الأكراد معارك دفاع عن عين العرب، بمساعدة طيران التحالف، انتهت بتراجع “داعش” وتدمير الجانب الأكبر من المدينة. وفي 2015، تعززت الشراكة بين “الوحدات” الكردية والولايات المتحدة، مع تشكيل “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) بقيادة كردية لمحاربة “داعش”. وخاضت هذه القوات الحرب ضد التنظيم على مدى أكثر من 3 سنوات، انتهت بسيطرتها بشكل شبه كامل على منطقة شرقي الفرات، التي تشكل نحو ثلث مساحة البلاد، وهي المنطقة الأغنى والأهم اقتصادياً في سورية، وتُدار اليوم من قبل “الإدارة الذاتية” ذات الصبغة الكردية، والتي كانت قد تأسست بدايات 2014 في شمال شرقي سورية.
ويقول نائب رئيس رابطة الأكراد السوريين المستقلين رديف مصطفى، في حديث مع “العربي الجديد”، إن علاقة الأكراد مع الثورة في سورية “مرّت بمراحل عدة. ففي البداية كانت قوية، وخرجت تظاهرات في أغلب المناطق ذات الغالبية الكردية للتضامن مع المدن السورية الأخرى، والمطالبة بإسقاط النظام. وأنا شخصياً كنت شاهداً ومشاركاً في هذه التظاهرات”. ويوضح “أن انقساماً حدث في الشارع السوري الكردي لاحقاً مع ظهور حزب العمال الكردستاني في سورية، من خلال الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية، وبالتعاون مع النظام”. ويشير إلى أن مهمة هذا الحزب “كانت مواجهة الثورة سياسياً وإعلامياً، والقيام بالاغتيالات ضد نشطاء الثورة وقمع التظاهرات. وسرعان ما سيطر حزب العمال الكردستاني، عبر أذرعه السياسية والعسكرية، بالقوة على الشارع الكردي، وتفرد بالقرار السياسي والعسكري والإداري والاقتصادي والأمني بالتعاون مع النظام، عبر سياسات الترهيب والترغيب”.
ويأسف مصطفى لأن “السوريين الأكراد في أوروبا بغالبيتهم وقعوا تحت تأثير الآلة الإعلامية الهائلة لحزب العمال الكردستاني، والتي لعبت دوراً في تحييد الأكراد عن الثورة”، مشيراً إلى أنه “ما زال كثير من الأكراد السوريين مع الثورة”. ويضيف “الأكراد السوريون كانوا قبل الثورة من أكثر الفئات تضرراً من نظام الطاغية الوراثي الذي أهدر الحقوق والحريات، وحوّل سورية إلى مملكة للرعب والصمت والمقابر الجماعية، لأنهم تعرضوا للظلم مرتين، مرة لأنهم سوريون ومرة لأنهم أكراد”. ويتابع “كان متوقعاً أن يضيف تحرير عفرين جمهوراً جديداً للثورة، ولكن هذا لم يحدث على نطاق واسع، لأسباب ذاتية تتعلق بآليات إدارة عفرين، وأسباب موضوعية”.
انقسامات وتشظٍ
وبنظرة على المشهد السياسي الكردي اليوم، تظهر تشظيه إلى أحزاب وهيئات ومجالس عدة، ما يعكس التباين العميق الذي يمنع الأكراد السوريين من تشكيل مرجعية سياسية واحدة تمثلهم في استحقاقات الحل السياسي. ويعد “المجلس الوطني الكردي”، الذي تأسس أواخر عام 2011، ويرتبط بعلاقة مميزة مع قيادة إقليم كردستان العراق، أبرز الجهات السياسية الكردية في سورية. ويضمّ المجلس، المنضوي في صفوف المعارضة السورية، 11 حزباً سياسياً كردياً سورياً، ويطالب بـ”الاعتراف الدستوري بالهوية القومية الكردية”، و”تحقيق اللامركزية السياسية في الحكم في سياق وحدة الأراضي السورية”.
ويشير المنسق العام لـ”حركة الإصلاح الكردي”، عضو “الهيئة الرئاسية للمجلس الوطني الكردي” فيصل يوسف، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن نضال الأكراد السوريين ظل مستمراً في العقود التي سبقت الثورة السورية “من خلال الاعتصامات أو التظاهرات، في مواجهة الاستبداد وسياسة الاضطهاد القومي التي مورست عليهم من قبل الأنظمة المتعاقبة، رافعين شعار التعددية والديمقراطية وإزالة السياسات الاستثنائية التي طبّقت بحقهم”. ويبيّن أن الأكراد “شاركوا في الاعتصامات التي جرت في دمشق منذ عام 2000 إلى جانب لجان إحياء المجتمع المدني ولجان التنسيق للقوى الديمقراطية”. ويضيف أن “الانتفاضة الكردية التي انطلقت في مدينة القامشلي عام 2004 تعتبر حلقة رئيسية في الدفع نحو تشجيع النضال الديمقراطي في عموم البلاد”. ويتابع “عندما انطلقت التظاهرات السلمية في البلاد عام 2011 إيذاناً بالثورة السورية، انخرط الشباب الأكراد في معظم المناطق الكردية في التظاهرات السلمية المطالبة بالديمقراطية ورفع الغبن عن الأكراد، وسميت إحدى جمع الثورة باسم آزادي (الحرية)”. ويضيف أنه “على الرغم من التحولات والتطورات التي أثرت على سير الثورة، إلا أن الأكراد ما زالوا من القوى العضوية المطالبة بتحقيق أهداف الثورة، وبناء سورية الديمقراطية التعددية لكل أبنائها من دون إقصاء أو تهميش”.
في المقابل، يبرز حزب “الاتحاد الديمقراطي” الذي يتفرد بالقرار الكردي في الداخل من خلال ذراعه العسكرية “قسد”، ويرفض مبدأ فك الارتباط بحزب “العمال الكردستاني”، ويطالب ببقاء “الإدارة الذاتية” في المناطق التي يسيطر عليها. وانخرط هذا الحزب في حوار مع النظام السوري على مدى سنوات، لكنه لم ينجح بسبب إصرار النظام على استرجاع منطقة شرقي نهر الفرات مقابل “حقوق ثقافية” للأكراد. كذلك دخل “الاتحاد” في حوار مع “المجلس الوطني” منذ نحو عام، بدفع من الولايات المتحدة، لترتيب أوراق البيت الداخلي الكردي في سورية، ولكن الطرفين فشلا حتى اللحظة في ردم هوّة خلاف واسعة بينهما.
المصدر: العربي الجديد